أحزان المحارب القديم
قراءة لرواية (خدعة العصر) للروائي منير الرقي
بقلم سالم دمدوم
[إن مأساة تاريخية كبرى، يمكن تصويرها عبر مصير إنسان من عامة الشعب]
مكسيم غوركي
أحزان المحارب القديم .هذا العنوان لا يفصح كما ينبغي عن توصيف بطل هذه الرواية هذا البطل الرمز، المستباح على كثير من المستويات : مستوى الذات ومستوى الطموحات ومستوى الروح ومستوى الوطن أيضا ، المشوهون لا يدخلون الجنة وهذا البطل مشوه الروح كثير العطوب فلن يستريح في جنة العشيرة،لذلك غدا كتلة من ندم وعذاب ! صارم في كف منهزم ، رامي سُوءٍ أحل السهام غير موضعها الصحيح فارتدت سهامه عليه " فما تحصى الجراح ولا الكِلام" خاض حروبا لا تعنيه أكسب أسياده الغلبة ودحر أعداءهم في جبهات القتال . وفي أعراس النصر اكتشف أنه لم يحرز غير الهزيمة ! جوزي جزاء سنمار . بدّل الاسم ، واللغة، واللباس،والتفكير،تخلى عن فاطمة ابنة عمه وأبدلها بانجيليك لكي يكون فرنسيا ، أخلص لمرؤوسيه ، وأكل لحمه، وولغ في دمه ، في سبيل إرضاء الأجنبي ليكتشف في آخر الأمر مدى الفجيعة والخزي والعار الذي كان حصاده من دنياه . مزيج من ذكريات حزينة معذبة، شبح إنسان يحويه معطف عسكري أزرق قديم ، ليس في جيوبه غير رسائل قديمة تؤرخ لانكساراته الفظيعة... وتقوم شاهد إثبات على جرائمه ، تنازل عن ثوابته وتنكر لأهله وانقاد لإغواء الأجنبي.فما حصد غير الندم والخزي والسراب
هذا هو يوسف المنصري قدر أحمق يقوده من عذاب إلى عذاب سيزيف آخر جديد متجدد ! يحاول الهرب من الحضيض إلى الخلاص فيجد نفسه متورطا في نذالات أشد ! قتل الطاهر بن عمه رمز الوطنية والممانعة ورفْض الذل ، فهرب إلى جبهات القتال يدفن فيها عاره، فوجد نفسه مرتكبا لجريمة أشد وأفظع !
هاهو يقذف به البحر،مهدم الكيان ، كتلة من عار وندم ، تتقيأه فرقاطة فرنسية قديمة، مازالت عليها آثار السياط الألمانية ، على سواحل بلاده . بلاده التي أساء إليها ، وطعنها من الخلف ، وساعد المستعمر على ليّ ذراعها وهي تحاول إزاحة القهر الذي يمارس عليها " كنت مشغولا بهمومي ومنعتني ذكريات الحرب وآلامها الاختلاط " يقول المنصري. هو حينئذ منكفئ عن ذاته مشغول بهمومه وحدها ، ويا لها من هموم ومن خيبات ومن قهر، ومن ندم، فالمقاتل الشرس الذي كان ينال التشجيع والإطراء في جبهات القتال ضد الألمان،وتُعلّق على صدره النياشين ، الرقيب الأول جوزيف منسرت ، تلفظه الدولة التي كسب لها النصر،وقتل من أجلها الإخوة وأبناء العمومة، وتنكّر لرابطة العشيرة وقدسية الدم ، تلفظه بعد كل هذا ، لفظ النواة مع شبه اعتذار بائس متصنع لا يفعل شيئا غير إضافة إهانة جديدة للأذى الذي تعرض له ... ترميه الفرقاطة سجينا أنهى عقوبته بتهمة الخيانة ولم يعد مرغوبا فيه ، مرحّلا إلى بلاده حيث سيواجه حتما ذويه : أباء وأمهات ينتظرون أخبار أبناء لهم أخذوا غصبا ووقع الزج بهم في جحيم الحروب، كان بينه وبين البعض منهم علاقات صداقة ووشائج قربى، وسيسأل حتما عن أخبارهم ، فماذا عساه يقول ؟! هذه المواجهة ( التي هي صلب الرواية ) تستحيل كوابيس مرعبة تمزق كيانه وتجعله يفكر في الاعتراف بأنه هو من أفقدهم أعزاءهم بتدبير من شيطان كان له مطيعا ، مرة ، وبقوانين الحرب: " اقتل قبل أن تقتل " مرة أخرى.
عند وصوله إلى بلاده يجد صورة أخرى من الاستلاب ! ليس وحده من استلب وليس ضميره وحده هو الذي أستبيح وبدلت هويته. بلاده مسقط رأسه ملاعب طفولته أيضا نالها الاغتصاب من مالكيها وصارت ملكا للمستعمرين..
يبدأ الكاتب في تكسير السرد العادي ويباشر إرسال الأضواء عن طريق استغوار بعض جوانب من طفولة بطله ، حيث نلمس في هذه الطفولة ما يشبه طفولة مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال للمرحوم الطيب صالح ، حيث يكون النبوغ في المدرسة ، وتوقد الذكاء ، مدعاة للتوغل في العلاقة مع الأجنبي والتشبع بثقافته ومن ثم يكون الابتعاد شيئا فشيئا عن ثقافته الأصلية وبداية انبتاته...وتكاد تنطبق على كليهما مقولة : " آفتي معرفتي الشر من ذوي النباهة قريب ! " في هذه النقطة بالذات يعري المؤلفان (الطيب صالح ومنير الرقي ) سلوكا جهنميا اعتاد المستعمر العمل به حيث يعمد إلى ترصد هذه الكفاءات التي يخشى نبوغها أن يصير شوكة في حلقه ، فيعمد إلى احتوائها بجميع الطرق واضعا أمامها كل الإغراءات، نلاحظ هذا الاحتواء على مستوى الرواية في المعاملة التي عومِل بها التلميذان النجيبان حيث وفر لهما المعلم الفرنسي ما يعتبر بالنسبة لهما نعيما ، مقابل ما في حياتهما من فقر وخصاصة وكبت ، بسكويت رائع ، قهوة زبادي لذيذة، مرافقة انجليك الرائعة وملاعبتها
(كم كانت جميلة وهي تجلس على الكرسي يهل عليها الضوء من نافذة خلفها !)
...مقابل شُدّاخ[1] مدوّد وكسرة شعير وخشب النخل المتهرئ .... والغريب أن هذا التقليد( احتواء الكفاءات ) ما زال متبعا حتى اليوم ولقد عمد أحد الكتاب ذات مرة في السنوات الأخيرة إلى دراسة شخصيات رؤساء الدول في العالم الثالث فوجد الأغلبية الساحقة خريجي الجامعات الغربية وكان لجامعة ها فارد الأمريكية نصيب الأسد !
تظل الومضات المدروسة بدقة تتوالى مركزة كل مرة على جانب من جوانب دهاليز شخصية هذا البطل الذي أعتقد أن الكاتب وفق في اختياره توفيقا كاملا . فالمحارب القديم يظل شخصية غنية بتجاربها ، مثقلة بأخطائها التي يسوقها إليها الساسة بما فيهم من جشع وحب للسيطرة والتحكم ،عاشت الرعب وصنعته ومارست القتل وتفننت فيه ، وشاهدت من قريب وحشية الإنسان وجنونه ضد أخيه الإنسان. وضد الأشجار والحقول والبناءات .إلى جانب ما في شخصية بطلنا من خصوصيات ..
مشهد لقاء البطل بأفراد العشيرة ، وأبناء العم والأحباب ، والذي يرد في الرواية في شكل مونولوج باطني هو كابوس تلقفه منذ أن غادر الباخرة ، لوحة صادقة معبرة، أُّجاد الكاتب بناءها ، فكانت أهزوجة أفراح ، وكانت بكائية أحزان! تخفي وجوه شخوصها ، وكلماتهم ، وصمتهم، فيضا من مشاعر متضاربة ، صهّادة عنيفة ...تنظر فاطمة لابن العم بوله وشوق مغلفان بالحلم والعتاب ، وابن العم يُشْوَى على جمر يتلظى، تفري كيانه عذابات رهيبة ، تثقل عليه أحيانا ، فيفكر في البوح بخزيه وعاره وجرائمه ، وتتراى له عواقب هذا البوح فيرتد عن ذلك ساقطا من جديد في دهاليز الحسرة والعذاب وإذا احتفالية " اللا خضرة " بما فيها من أذكار متناوحة ، وبناد ير ضابحة، وحركات متخمِّرة وروائح الجاوي ترحل في الأثير، تستنزل الأرواح والأوهام ، بما تستحضره من معتقدات وأجواء الصلاح والتوبة تزيد من تمزقه وعذابه ! ففيها تشجيع مضمر عن البوح والصدق من ناحية ، ومن ناحية أخرى تقبيح وتشنيع واستفظاع لما فعل وارتكب ، ويشتد الصراع في ذهنه والغليان في كيانه يورطنا الكاتب بطريقته في الاندماج في أحزان بطله الرهيبة هذه حتى تكاد تثقل علينا ونكاد نجد منها عنتا ونكاد نصيح بالمؤلف : توقف سيدي قليلا ، دعنا نكفكف العبرات التي جعلتنا نذرفها من أجل هذا الشقي الذي أدت به خدعة جهنمية إلى مهاوي الردى والعار والفجيعة... ويكون الإغماء طريقا له وللكاتب وللقارئ على السواء لإنهاء هذا العذاب أو تأجيله على الأقل.
لكن هل توقف النحيب الذي تلفظه هذه الشخصية المنهدمة في نشيج أبدي أليم ؟ لا. أبدا . إن هي إلا مراوحات قصيرة بضمير الغائب ، يعمد إليها الكاتب لتحاشي رتابة السرد ثم تنهطل الأحزان بضمير المتكلم عن طريق عمليات استغوار وحفر في دهاليز شخصية يوسف المنصري وإذا الندم والحيرة والعذاب وجلد الذات تترادف مبرزة أحداثا فضيعة وذكريات مرة تهد الكيان ، ذكرني صراخه المكتوم بصرخة (أوديب ) في المأساة الإغريقية : "...وكيف لا أخاف سرير أمي؟!" كيف ينسى يوسف المنصري صورة الطاهر يتعثر فيسقط فيفجر رأسه برصاص مسدسه إرضاء لسادته حين كان في سلك البوليس الفرنسي ؟! كيف ينسى طعنه لابن خاله المنصف بحربة البندقية مرة أولى وثانية وثالثة حتى الموت في معركة فردان عل جبهة الألزاس واللورين" آه يمّا "صرخة ممزقة معذبة ، لعنة أبدية ستظل تطارد المنصري حتى آخر العمر ! ذكرتني شخصيا بصرخات تطلقها إحدى بطلات عبد الرحمان منيف أثناء حفلة تعذيب رهيبة " أخ ,يما "
كيف ينسى ما انتابه من ندم وعذاب حين يتعرف على القتيل فتهطل أحزان الدنيا تسربل كيانه بالقهر؟ كم تمنى أن يكون واهما وأن يكون القتيل غير ابن خاله ، لقد أمل في ذلك قليلا ولكن هاهي الأصبع المبتورة والتي يعرفها يوسف جيدا ، هاهي رسائله التي تبادلها معه تؤكد المؤكد فتنتصب الحقائق ساطعة معبرة خرساء كشواهد القبور ، لا يدحضها وهم . يحمل جثة ابن خاله ويدور بها بين الأموات والحفر والندم شديد والحيرة على أشدها ، والعذاب في ثقل الجبال ...
" ... يا ويلتي ، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي... " صرخة الخطيئة الأبدية الأولى أطلقها قابيل أول أبناء آدم القتّالين ، حين اشتعلت في قلبه نيران الجشع والغيرة ، فاقترف الجريمة الأولى! فهل من غراب يهدي المنصري ويخلصه من قدر إغريقي جعله يتشظى ويتفتت ندما ؟ كان أبطال المآسي الإغريقية يعمدون في النهاية إلى فقء أعينهم بأسياخ الحديد المحمي من شدة الندم ثم يهيمون بين المغاور والكهوف ، فأي المغاور، وأي الكهوف تسع أحزان يوسف هذا المحكوم مرتين وبالتهمة نفسها : الخيانة ؟!
وإذا كانت تهمة خيانة أسياده ملفقة وملتبسة، فإن خيانة وطنه ثابتة لديه يؤمن بها ويحسها في كل زمان وفي كل مكان . فهل من سبيل للهروب من خوازيق الذكرى وثعابين أخطاء الماضي التي لا يرحم ولا تنام ؟ ألا من سبيل لفقدان الذاكرة فقدانا أبديا غير الانتحار؟هل من سبيل لاجتثاث الماضي بكل أحداثه ؟ هذه الأسئلة كانت تعتمل في كيانه وإن لم يصرح بها.
دعنا نحاول الانسلال والهرب من أدغال متاهة الأحزان هذه التي يضعنا فيها السيد الرقي عن طريق يوسف المنصري ، حيث اتضح لنا أنه ما زال يخبئ في دهاليز حكايته كما هائلا من الأكدار والتنغيص يحتفظ بها في أنفاق بطله يرسلها مجزأة كراد يس تتجه إلى نفوسنا فتنغصها وتحرك البرك الساكنة فيها فنزداد أوجاعا وأحزانا ، ما زال لديه الكثير : مشاهد القتال في الجبهة ، مشهد الضيعة في الريف الفرنسي وما أصابها من دمار وخراب ، مشهد المرأة المتجمدة قهرا،بعدما فقدت جميع أسرتها ، يد المحارب تمتد إلى عقد في عنق تلك المرأة فتستولي عليه ، ما فكر فيه وما فعله وما هم بفعله حينها ، كلها رموز مكتنزة معاني وعذابات ، تفصح، وتُرْجم،وتحاكم وتحتج على قدر أحمق وزمن عقيم ، مشاهد الاعتقال والاستجوابات المتشابهة، وحفلات الضرب والسب والإهانات ، مشاهد الزنزانة الرهيبة ، حيث تمارس ببطء مدروس عملية إعدام الإنسان في الإنسان ...
نحاول الهرب من ذاك كله، ونتأمل في شيء من الدعة، وبرودة الأعصاب، هذه الخدعة التي تثير البكاء والسخرية في آن !
خدعة العصر مأساة شعوب وأوطان جسدها السيد الرقي في شخص هذا التعيس يوسف المنصري بطل الرواية . فجاءت عملا منفلتا مكسرا لكثير من الثوابت ، التي كادت تترسخ لدى كثير من الكتاب. تحمل مواصفاتها في ذاتها ، مواصفات جديدة على غير مثال، متجاوزة مرجعيات صارت تتآكل باستمرار منذ مدار السرطان[2] لهنري ميلر، مسحت جبل الثلج، فظهرت تخوم المكان، وشقت طريقا جديدا , وكسرت أضلاع المثلث فغدا خطا واحدا مستقيما ، وترا مشدودا يسجل أدق الأصوات وأخفاها ! فلا تلمح في معمارها قاعدة ،ولا سفح ولا قمة . ليس بها اشتباك، ثم تعقد، ثم حل ،كما كان المألوف في الأعمال الروائية ! هي اشتباك متواصل ، معركة خطط لها جيّدا فاشتغلت جميع أسلحتها في وقت واحد وبقيت تحتدم بضراوة حتى حققت أهدافها ! هكذا هذه الرواية تنطلق رهيبة وتنتهي رهيبة. من وجع إلى وجع، تدفعنا بلا رحمة، فنتجرع المرارة حد الغثيان
خدعة العصر يقظة مثقف أحس أوجاع أمته حفر نفقا في جبل التاريخ فرأى الملك عاريا وفتح كهف الجنية حيث وجد يوسف المنصري الرجل العربي الواهم المستباح فسيره إلينا راويا وداعية ونذيرا وعلى الذين ينكرون اسم المنصري أن يبحثوا له عن بديل مناسب :منتصر مهزوم ، بيوع تائب، نادم تنازل عن ثوابته واستكان لخداع الأجنبي سفك دم أمته في سبيل تاج يتكرم به عليه القياصرة ، فكان مصيره ما نرى: المهانة ثم الجنون
خدعة العصر صحوة ضمير نام زمنا ، استفاقة من حلم ذي كوابيس مرعبة ، هي فواجع النهايات ، لحظة الحساب العسيرة سؤال حارق جارح ، أحرى به أن يتردد في كثير من البلاطات عودة إلى الأصول وبحث عن الهوية الضائعة في هذا الزمن الرديء ، طلب الغفران من رب المغفرة ،ومن الأوطان أيضا !
عجيب هو هذا الشيء الذي ندعوه الضمير عجيب حين ينام كل هذه السنين وعجيب حين يستيقظ بمثل هذا العنفوان كم هو رهيب هذا التقريع الذي يتعرض له بطل الرواية وعجيب أيضا قول فيلسوف قديم :" شيئان لا ينيآن يملآن قلبي بالإعجاب والاحترام ، ويزداد فكري تعلقا بهما وتطبيقا لهما : السماء المضاءة بالنجوم فوق رأسي ، والقانون الأخلاقي في داخلي [3]"
هذا القانون الصارم هو الذي صار يطارد المنصري مطاردة لا تهدأ ولا تلين يترصده في كل مكان وزمان، صحوة الضمير هذه تمنحنا رؤية بصيص أمل في آخر النفق، يبشر بوعي غير الوعي وتعاطيا مع أحداث العالم من حولنا بطريقة غير الطريقة التي سار عليها يوسف المنصري وأمثاله الكثر في عالمنا العربي
تلك هي بعض دلالات خدعة العصر ، على مستوى الموضوع . أما على مستوى الشكل العام فهي سرد هادئ ومتوثب ، محائد ومنحاز ، مستفز وواقعي، لم أصادف مثيلا له في ما قرأت إلا عند أحلام مستغانمي وفي ذاكرة الجسد بالخصوص. يأخذك بهدوئه وصدقه بجمله القصيرة المتفجرة معنى ، بما يشبه الاستلاب، فتظل متما هيا مع الأحداث ، منفعلا بها . تنسى زمنك ،وتعلق في زمن آخر مشتبكا مع قضاياه ، تحس الآهة والصرخة ، وتعي العطوب والجراحات ، تعيش الأحداث لحظة بلحظة ، بل لعلك تستعجل انهمارها لترى نهاية هذه العاصفة الرعناء التي تعتمل في كيان البطل، غير أن الحكاية تظل منكتمة في ذاكرة المنصري. المؤلف وحده هو الذي أوكلت إليه مهمة التصرف فيها فيعمد إلى تسريبها إلينا في شح مدروس وحرفية خاصة به، يعرف متى يكون راويا ومتى يتوارى مفسحا المجال لبطله كي يمطرنا شآبيب من ذاكرة مكتظة حد الفيضان . فنكون مستحثين باستمرار للسير وحادي العيس يعزف لنا شجي اللحون فنستخف بصحراء السرد، تولجنا الرواية فيها فننشط ونستعجل الوصول .
تتوالى الزخات شآبيب من آلام البطل وعذاباته تتكاثف وتشتد باستمرار، حتى ليخايل إلينا أن الكاتب يتزيد عن يوسف وأنه بدأ ينحو به منحى البطل التقليدي يقرب من الأسطوري أو الخرافي فنتوقف عن القراءة قليلا ، متأملين أحوال العالم من حولنا ، فنرى عجبا حيث نجد إن أمثال المنصري كثيرون انغرسوا بطريقة ما في مواقع فاعلة ... ، نرجو لهم التوبة والعودة إلى الأصول
يستعمل الكاتب في الغالب طريقتين في سرده فنسمع صوتين يتناوبان : صوت راو يخبر عن البطل أو يمهد له وهو الكاتب المتنكر والمختبئ وراء شخوصه وهو الذي يتصرف في الزمن و يختار الأحداث فيبدو ماسكا بخيوط اللعبة يمارسها كما يشاء مستعملا في الغالب ضمير الغائب حاملا للسرد . وصوت آخر هو صوت البطل فيكون الضمير" أنا " هو المستعمل فينتظم الحكي في شبه سيرة ذاتية حيث يكون البطل مرجعا وحيدا والأحداث كلها متعلقة به تعلقا متينا . وهنا يبدو لي شخصيا أن هذه الطريقة في السرد والتي تراوح بين ضمير الغائب وضمير المتكلم (بدون أن يشعر القارئ بذلك ) قد أكسبت العمل خصوصية ونضجا فلا الراوي يطيل المقام معنا حتى نحس برتابة السرد المألوفة ، ولا البطل يمعن في استفراغ ذاكرته فيقرفنا ببكائه وتوجعا ته ومغامراته وبطولاته ، بين بين كان سبيله وكأنه قد عمل بوصايا الكاتب الإيطالي " إيتالو كاليفينو" لكتاب الرواية في لألفية الثالثة : الخفة، والسرعة،والدقة، والتعددية، والوضوح . فهو يحاول أن يجعل فصول روايته قصيرة ما أمكن حتى يوفر للقارئ فرصة لفك الاشتباك ! وذلك مفيد ولازم حسب ما أرى فكاتب الرواية اليوم عليه الانتباه إلى وضعية قُرّاء هذا الزمان فأغلبهم( صنف ثالث ، فلا هم عجم ولا أعراب !)
وعلينا أن نسأل ـ في السطح لا في العمق ـ : من هو يوسف المنصري ؟ ونجيب :
هو مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال، وهو سعيد مهران في اللص والكلاب، وهو جان فلجان في البؤساء، وهو أوليس في الإلياذة، وهو زكرياء المرسلي في الياطر، وهو مسعود اللفتي في خبر النقيشة [4]
هذه خواطر أثارتها قراءة أولى لهذه الرواية قد تكون متسرعة ومبتسرة إلا أنها مشاركة في حوار حبذا لو يدور حول هذا العمل الجيد في زمن قريب ...
سالم دمدوم في 27/مايو /2009
بن قردان 4160 ص.ب: 44 ش.البيئة
[1]نوع من التمر يحفظ عمدا قبل أن يجف حتى يختمر قليلا فيكون له طعم خاص ضارب إلى الحموضة
[2]يلاحظ النقاد إن هنري ميلر في روايته مدار السرطان قد حطم البناء النموذجي بما يستلزمه من بداية ووسط ونهاية
[3]الفيلسوف الألماني( أمان ويل كانت )
[4]رواية خبر النقيشة لسالم دمدوم صدرت حديثا فاستوجب ذلك الإشارة إليها