خواطر حول أقصوصة أمل
للأديبة: ملاك الحاجي
الجزء الأوّل
بقلم سالم دمدوم
هذه الأقصوصة هزتنيوأمتعتني حد النشوة ! رمتني على حافة الدهشة بصدقها وعفويتها وبساطتها وبحبكتهاالجيدة وطهرها وعفتها أيضا ! لغتها بسيطة مشرقة ومعبرة وصادقة دسمة بمعانيهاوبدقتها في التعبير عن هذه المعاني إلى جانب اقتدارها العجيب على ولوج نفس القارئبكل سهولة ويسر لتنز رع مشاتل عطرة من الأفكار والأحاسيس والأحلام
موضوعها عاديجدا ومستهلك فلا يكاد يخلو أي نص سردي من قصة حب على امتداد تاريخ الأدب ، وطرقهيحتاج إلى مهارة خاصة في تقديمه إلى المتلقي وعرضه بطريقة مقنعة تستهويه وتشده إلىمتابعة أحداثه . غير أن الكاتبة استطاعت مع ذلك شد القارئ إلى موضوعها فصار يهتم بهويتابع تطوره ليعرف نتيجة هذه العلاقة الناشئة والملتبسة بين الحبيبين العاشقين .
اختارت الكاتبة بطلين شابين( شرقيين ) رومانسيين وطاهرين لم تدنس مادية هذاالزمان فيهما عواطف الحب النبيل الطاهر والانجذاب الطبيعي نحو الآخر تدنيسا كاملا . فعلى امتداد القصة كلها لم نجد في سلوكهما ما يجرح الحياء ! وهي نزعة قل وجودها بينكثير من الكتاب في هذا الزمان ،حيث صار أغلبهم يقحم المشاهد الجنسية إقحاما في سردهاستجداء لاستحسان القارئ وشده إلى موضوعه ! وكأن هذه الأقصوصة بذلك تبشر بما أصبحيعرف عند كثير من النقاد والمبدعين بالرومانسية الجديدة 1 .
بطلين عاديين منعائلاتنا التونسية المتواضعة كان كلاهما لا يترك لعواطفه مجالا للانفلات بعيدا عنالحكمة والتعقل ولم يكونا مع ذلك فيلسوفين ولا متعصبين متزمتين ! كانت المشاعرلديهما تعتمل في صمت ينساب لظاها حارقا حينا دافئا أحيانا تجللها أحيانا مسحة منالشك ! شك في مدى استجابة الآخر، وحيرة بين أي السبل يمكن أن يكون انسب للوصوللقلبه حتى التصريح بتلك الكلمة السحرية" أحبك " مشاعر الشك والحيرة هذه ولدت شيئامن الخوف أيضا وأضفت على أجواء القصة حميمية وعمقا. قصص الغرام إذا ما اختلطتبالخوف والحيرة والشك أصبحت كمعتق الخمر تأسرك,وتشدك بعنف فتقترب منها حتى تدمنهاثم لا تدري على إي الدروب ترميك كؤوسها !
استطاعت الكاتبة بناء القصة وأجادت غزلحبكتها على نول من الذكاء والمهارة ... شوقتنا طويلا إلى اللقاء وزرعتنا في غاباتالشك والحيرة والتخوف ،أدخلتنا إلى حميمية مشاعرها حتى أحسسنا دفأها ولهيبهاوارتعشنا لمخاوفها وصلينا في سرنا أن لا يخيب حبيبها ظنها ! ولا ندري كيف استطاعتأن تكسبنا إلى جانبها فأصبحنا متحمسين لقضيتها نتمنى لهذا الحب الناشئ أن يكبرويزدهر !
حين طلب منها اللقاء كانت فرحتها كبيرة غير أن الشك مازال لم ينتهبالمرة في كيانها! مازال يسبب لها شيئا من اضطراب وحيرة ولكن الفرحة العارمةباللقاء تتغلب على الشكوك والمخاوف
وتزرع بذور الأمل في نفسها فتستحيل أنثىعاشقة تستعجل القمر والساعة ترقب مجيء الصبح بفارغ الصبر . وحين كانت أمام مرآتهاتتساءل : بأي ثوب من الأثواب تلقاه ، كانت أنثى عاشقة صادقة المشاعر ...تريد أنتكون جميلة جذابة في نظره تملأ عينيه وفؤاده وتنال إعجابه ليقول لها : أحبك ...
في مفصل من مفاصل الأقصوصة تطل بوادر نضج أنثوي تجعلها تقرأ حسابا للمستقبلوتجري في سرها بعض المقارنات تحس في اندفاعها إليه إنها غير عادية وان تصرفها خروجعن المألوف ففي العرف إن الذكر هو الذي يجري وراء الأنثى ويتقدم منها ويعرب لها عنحبه ، غير أن الحب يتدخل فيسكت صوت الرقيب ويكون اندفاع الأنثى ! كانت تشعر بغريزةالأنثى أنه يحبها ولكن شيئا ما يمنعه من البوح بذلك ويجعله محافظا على صمته ، هذاالصمت يحيرها ويؤلمها كثيرا ! (...من بين براثن صمته القاتل )هذه العبارة كم هيصادقة وضاجة ومتألمة معبرة بعمق عن إحساس البطلة بالحيرة والإحباط من جراء هذاالصمت القاتل الذي يصر عليه حبيبها مما يجعلها تتسلل إلى نفسية الذكر تحاول فهم هذهالأحاسيس والمشاعر التي تملي عليه هذا السلوك المنغلق أحيانا حيال الحبيبة ! وتتعجبفي دهاء نسوي جميل :
(... غريب هو هذا الكائن الذي يسمونه الرجل ! )
إحساسبسيط وعادي تحسه الأنثى ولكن الكاتبة أجادت توظيفه واختارت زمن إظهاره وأحسنتالتعبير عنه فكان جميلا وموحيا ومعبرا خير تعبير عن حيرتها وعذابها من جراء هذاالتصرف الذي لا يرضيها ولا تعرف أسبابه ، وتظل عن طريق مونولوج داخلي تثير مسائلأنثوية تناقش سلوكات مشبعة بموروث المرأة الشرقية و طرق تعاملها مع الرجل في مثلهذه الحالات .وتصل بها هواجسها إلى حد التفكير في الابتعاد عنه ونسيانه ولكنها تعرفأن ذلك ما لا تستطيعه أبدا ، فالحب ولو من جانب واحد يشدها إليه بسلاسل قوية مؤلمةحتى ولو كانت من حرير مغلفة بمخمل الحب ! حالة الحب هذه والانجذاب القوي إليه تضفيعليها الكاتبة وشاحا من الغرابة إذ تصرح إنه لم يكن بمواصفات فارس أحلامها الذيرسمته بأنات في خلواتها إلى نفسها أثناء توهج الأنثى في كيانها ككل فتاة في جميعالدنيا ، فكيف تسلل حبه إلى قلبها ?. كثيرون غيره ركضوا وراءها ، حاولوا رمي شباكهمنحوها ولكنها لم تقع ! فلماذا هو?، هكذا تتساءل في سرها وحين تبد أ الحفر في دهاليزالماضي نكتشف علاقة طفولية كانت لها معه يوما وهما تلميذان بالمعاهد الثانوية ،والماضي كما قيل عربة تفاح جميلة تنأى محملة بروائح الحلم. وإذن فهذا الحبيب عائدمن الماضي ، ربما من آخر طفولة أو بداية مراهقة أولى حيث جمعتهما صدفة ما غرست فينفسيهما براعم الحب الأولى حتى إذا ما جمعتهما هذه الصدفة مرة أخرى انتعشت تلكالبراعم وتفتحت وتضوع أريجها منعشا لذيذا أيقظ ذلك الميل القديم ليصير حبامتوهجا!...
فعلت الأيام فعلها وكبرا وتغيرت فيهما أشياء
(... صار أنضجومغمورا بالرجولة وكان وجوده يمنحها الأمان والسكينة ...)
هكذا تصرح وهكذا يخيلإليها أن حبها له أصبح أكبر من الرفض وأعصى على الكسر !وأن العلاقة بينهما سائرةحتما إلى نهاياتها السعيدة ، ينشأ هذا الوهم لدينا نحن القراء أيضا عندما تكونالبطلة في الطريق إليه تدغدغها الأحلام وتهدهدها الأماني سعيدة بهذا اللقاء الذيطالما تمنته واستعجلت حدوثه وعلقت عليه الآمال فطارت فرحا عندما تغلب عن صمته وحددلها موعدا للقاء
عندما يلتقيان تبلغ الأحداث ذروتها وتتصادم الرغبات وينهار صرحالآمال ! يفصح الحبيب عن أفكاره فإذا لوم وعتاب يبلغان حد التقريع والشتم آخذاعليها تغير سلوكها حتى صارت لديه امرأة أخرى لا تمت بصلة إلى الفتاة البريئة التيكانت في مخيلته والتي سبح مع طيفها في كل فلوات الأحلام
"أصبحت طموحاتك كبيرةوتطلعاتك أكبر واندمجت في نسق الحياة المتسارع وصرت امرأة أخرى لا أعرفها " 3
"غيَرتك الحياة كثيرا وطمست معالم البراءة التي أحببتك لأجلها..." 4
تصدمالبطلة فتغضب وتنفعل بشدة ويختنق صوتها ولا ترد بشيء وتقرر إنهاء اللقاء. يحاولإبقاءها ولكنها تصر على الفراق "من فضلك دعني أرحل " . لم تقل (دعني أذهب) فالرحيلغير الذهاب والذين يرحلون عنا في الغالب لا يعودون ، ذكرياتهم وحدها قد تبقى ولكنهاتظل تتآكل بمفعول الزمن حتى يلفها النسيان . فاستعمال كلمة الرحيل في هذه الحالةإيحاء بغربة المشاعر وفراق طويل .
منفعلة غاضبة تفارق حبيبها، وتعود إلى بيتها،يعصرها الألم والإحباط والحيرة ونكتشف أنها ما زالت تحبه وأنه أسعدها بتأكيد حبهلها بالرغم من كل ما وقع وتعود الحيرة من جديد مسطبنة ذلك الحوار الداخلي الذي تعمدإليه الكاتبة عن طريق بطلتها لتطرح من ورائه أحدى المشاكل الاجتماعية التي وظفتنصها لمعالجتها وهي مشكلة الخطوبة واختيار زوج المستقبل ومواصفات كل من الفتىوالفتاة التي يريدانها في القرين . فهي تعيب على الرجل نزعته الأنانية الساعية دوماوراء الامتلاك والوقوف أمام طموحات المرأة وأحلامها وعدم احترام ذاتيتها وخصوصيتها:
( لماذا لا يقبلها كما هي بكل ما فيها من تغيرات?! ألم تقبله هي دون أن تنبش فيمدى اختلافه عن الصورة التي رسمتها سلفا لرجل أحلامها ?! )
وحين نتأمل ما طرحتههي من قضايا وإشكالات ومآخذ الرجل عليها والتي تغطي أغلب الصفحة الرابعة والثمانيننكتشف عمق النص ومدى صدقه وتغلغله في صميم مجتمعنا ليتصدى إلى ما نلاحظه لدى أغلبنامن انخراط غير مدروس في نسق الحياة المتسارعة بما فيها من ميل إلى المظاهر الزائفةونزعة استهلاكية مبالغ فيها أحيانا زرعتها في حياتنا عولمة متوحشة لا مكان فيهاللمشاعر النبيلة التي بدونها يصير البشر حيوانات سائبة لا غير ! هذه الإشكالاتالمتداخلة التي خالطت حياتنا وأثرت فيها وتكاد تفصلنا عن هويتنا وتقاليدنا استطاعتللأسف الشديد أن تفصل بين هذين الحبيبين وتكون سببا في فراق نتمنى أن لا يطولفالكاتبة بطريقة ما جعلت هذا الأمل قائما في نفوسنا
ينتهي هذا النص الجميلبرسالة تكتبها البطلة إلى حبيبها رسالة قصيرة لا تتجاوز بعض الأسطر كلماتها قليلةولكنها مشحونة بالمشاعر تزلزل الكيان ، منفعلة ورصينة نضاحة بالإخلاص والمودةيعصرها الألم والحسرة
"سأبتعد عنك لأني أحببتك .....) (إن حبك أصبح وطني الذيأسكنه ...) (أني رحلت لأني أحبك.)
تتوالى عبارات الحب في الرسالة لتؤكد مدى تعلقالبطلة بحبيبها وإخلاصها لحبها بالرغم مما حصل وهكذا توحي لنا بأن الحب أكبر من كلالمواصفات والمصالح والأنانيات والفلسفات يتحدى حتى الأعراف والقوانين وحين ينتهيالحب من حياتنا تصير أيامنا خواء وليالينا غربة واغتراب .ومن الخير لنا إذا أردناحياة سعيدة أن نتواضع قليلا ونقيم علاقاتنا على الود والبساطة والتسامح والغفران .
---------------------------
1 منشورة بمجلة ألإتحاف مارس 2008 ص79
2 هو اتجاه جديد في القصة والرواية ظهر فيالسبعينيات من القرن الماضي عبرت عنه رواية بعنوان "قصة حب " للكاتب الأمريكي (إريكسيجال )جرى إعدادها فلما حقق نجاحا باهرا لم يكن يخطر على بال حتى مؤلفها نفسه وهيعبارة عن قصة عاطفية بين شابين تصور العواطف الإنسانية السهلة بعيدا عن الماديةوالإسفاف والمشاهد الجنسية ...
3 ص 84
4 نفس الصفحة
5 مجلة الإتحاف مارس 2008