موقع سالم دمدوم للقصّة والرّواية والنّقد - قراءة في رواية "سرنديب"- الجزء الثاني -
   
  موقع سالم دمدوم للقصّة والرّواية
  كلمة التّرحيب
  المجموعات القصصيّة
  الروايات
  الخواطر
  الاتصال
  المقالات
  => قراءات في رواية سرنديب -الجزء1
  => قراءة في رواية "سرنديب"- الجزء الثاني -
  => قراءة في رواية أين جسدي
  => قراءات في المجموعة القصصية أين جسدي
  => قراءة في رواية أين جسدي
  => قراءة في رواية "موسم التأنيث"
  => قول في التراث
  => خواطر حول الشعرالشعبي
  => غدا تخلع الشمس بردتها ج1
  => غدا تخلع الشمس بردتها ج2
  => خواطر حول أقصوصة أمل ج1
  => ج1 دراسة نقديّة للمجموعة "الوطن لا يطير"
  => ج2 دراسة نقديّة للمجموعة "الوطن لا يطير"
  => ملاحظات حول كتاب "الإبل"
  => على أيّ درب يكون الرحيل
  => قراءة لرواية (خدعة العصر)
  => قراءات حول مجموعة إضمامة نساء
  قرّاء وآراء
  المنتدى
  العدّاد
  مواقع ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة 2009@ بإشراف محمّد الهلالي
قراءة في رواية "سرنديب"
- الجزء الثاني -
 
من بعيد:
[...
إذا كانت شجرة الصفصاف تنحني نحوجذورها كلما تقدم بها العمر، فإن الحنين إلى الطفولة ،إلى الأماكن الأولى، يصبحملحَا إلى درجة يطغى على كل ما عداه ! ولا ينطفئ هذا الحنين إلا بأن يفيض إلىالخارج، أن يشرك به الآخرين . وهذا ما يفعله بعض الكتاب ...]
وقعت في يدي أخيرارواية الأديب محمد العوني الموسومة ب ( سرنديب) الصادرة عن دار سحر فيفري 2008فاستفزتني وأسعدتني في نفس الوقت!ومثلت لي شخصيا نوعا من التحدي!.
أسعدتني لأنيرأيت في صدورها ظاهرة جميلة بدأت تنمو في ربوعنا الجافة :أن يتصدى رجال بعد إحالتهمعلى التقاعد إلى الكتابة والتأليف في أي ضرب من ضروب المعرفة والإبداع، لهو تطورهام في ربوعنا، ودليل على بلوغ درجة من الوعي والنضج جديرة بالتشجيع والتقدير . إنهم يرسمون خرائط جديدة لكنز قديم يتهدده الضياع ! يصنعون تاريخا ما ،وذلك مندواعي احترامهم ، فليست الكتابة أمرا سهلا ولا عملا مربحا في زمن صار همَ الأغلبيةمن الناس الربح المادي لا غير في ظل عولمة متسلطة جعلت همها تسطيح الفكر وإهمال كلالقيم ما عدا القيمة التجارية ! .قلة هم ولا شك أولئك الذين يواصلون العطاء،يختارون في بطء شديد ثم يظلون أوفياء لاختياراتهم حتى آخر العمر، متناسين تماماالمنفعة المادية. "الفنانون يأتون العالم لا ليملئوا بطونهم هم ،بل لكي يهيئوا غذاءجديدا للبشرية" فما أسعدهم .! ما أسعد الإنسان حين يستطيع إشعال شمعة قبل حلولالظلام !
هذا باختصار شديد سبب سعادتي . أما ما استفزني في الرواية فأشياء كثيرة، وبعضها مثل لي شخصيا، تحديا حقيقيا. فالرواية تقع في 264 صفحة من الحجم الكبيرزيادة على خطها الدقيق مما يجعل الإبحار معها لا يخلو من تهيب ومقارعة صعاب لا يقوىعليهما كثير من القراء في هذا الزمن الذي تنبأ به ( بورخيص ) ذات يوم حين قال : هلبدأنا نقترب من الزمن الذي يصبح فيه القراء الجيدون أكثر ندرة من الكتاب الجيدين !? ولكن مع ذلك، وانطلاقا من قناعة لدي إن من أبسط حقوق المبدع على المثقفين أن يقرؤواما كتب وأن يحاولوا محاورته إذا كانوا فعلا يهتمون بالثقافة ويحملون رسالة وينطلقونمن قضية . فمهما كانت قيمة هذا الحوار فإن فيه نماء
وإثراء وإضاءات تنيرالأنفاق وتؤسس للأجمل، فصرح الثقافة لن يكتمل بناؤه أبدا! طوبى لمن يضيف إلى جدرانهلبنة ، أو يفتح في دهاليزه شرفة جديدة ...
سرنديب:
تقرأ العنوان وتتأمل صورةالغلاف لتنسحب بعيدا في أنفاق التاريخ مترسما خرائط الأساطير القديمة صحبة الرحالةوالإخباريين من أمثال الطبري وابن بطوطة لتجد نفسك بأرض الهند على جبل "الراهون "حيث نزل أبونا آدم أول مرة طريدا من الجنة! وحيث ما تزال آثار أقدامه الشريفةظاهرة للعيان كما يدعي ابن بطوطة ! . وتتزاحم الأسئلة :
ما علاقة سرنديب بقصرمدنين ? هل لأن هذا القصر كان المكان الذي استقرت به قبائل ورغمة حين عن لها أن تضعمرتكزا لطوافها عبر الصحارى ? هل ثمة علاقة بين مسعود بطل الرواية وأبينا آدم فيتأرجح أقدارهما بين المنفى والملكوت? وهل " استير "بطلة الرواية العاشقة المعشوقةصورة أخرى من صور حواء أمنا الماكرة الجميلة، التي أغرت أبانا آدم بأكل التفاحةالمحرمة ? وهل مسعود في النهاية صورة أخرى لجلجامش السائل ما لا يسأل، يرفضالمستحيل، يناطح القدر، ويتحدى التقاليد ، ويبغي الثمرة الحرام ، الباحث دون جدوىعن عشبة الخلود?! هل كانت رحلة مسعود في الحياة إبحارا في زورق " انكيدو" بحثا عنهذه العشبة? نكاد نلمح ذلك حين نرى خيباته في حبه وتكسر أحلامه وتلاشي آماله،ونتذكر سيدوري عرافة بابل تقول ل (جلجامش ):"إلى أين تمضي يا جلجامش ، إن الحياةالتي تبحث عنها لن تجدها !..." وهل "استير" فتاة يهودية أحبها مسعود حتى الجنون أمهي حلمنا وتوقنا إلى الأجمل ورغباتنا، طموحاتنا المغدورة التي تكسر أغلبها وأجملهافي رحلة الحياة ?!.
يأخذ الاستفزاز وجها آخر حين نجد قصة غرام ملتهبة بين فتىعربي مسلم، وفتاة يهودية، في بيئة ( تدعي) إنها محافظة جدا، هي قصر مدنين في بداياتالنصف الثاني من القرن العشرين وبعد الصدع المرعب الذي أحدثه التاريخ بين العربواليهود إثر نكبة فلسطين!
(
استير )في الرواية شابة شقراء رائعة الجمال آسرةومحرضة،( وفي شعرها الذهبي عندما تجلس أمام مرآتها لتسرحه ينعكس اللهيب )،مضرمةحرائق في حقول شباب الحارة من عرب ويهود !" فانوس فاتن يضيء ما حوله من ظلمات " كمايصرح مسعود بطل الرواية . هل أحبها الكاتب ? لعله من السذاجة أن يسأل هذا السؤالبالرغم من إغرائه،ومع ذلك فقد سئل يوما : هل أحب " ليوناردو دافنسي" الجيوكندا / الموناليزا ? وكان الجواب : كيف لم يحبها وقد خلد صورتها وحملها معه إلى العالمالآخر ?! و يمكن أن نجيب نحن : كيف لم يحبها وقد جعلها بطلة لروايته? وإذا كانليوناردو دافنسي قد رسم لوحة واحدة لحبيبته فإن مسعود قد جعل استير موضوعا وحيدالكل لوحاته وكما كان بطل "ذاكرة الجسد" مهووسا برسم جسور قسنطينة فإن رسام سرنديبمهووس برسم عيني استير المعبودتين فقد جعلهما جحيمه وجنته وكادتا تفعلان به ما فعلتعينا "اليزا تريبولي " بأراقون الشاعر الفرنسي المعروف!
"
عينان أندلسيتانزرقاوان تفتكان من المتأمل في اللوحة كل اهتمامه ...!"
وعن طريق الرسم تتنبأالريشة بمصير هذه العلاقة الملتهبة بين الحبيبين !
–(
هذه اللوحة لماذا رسم لهاقلبا من الجمر الخامد مع إن الخطوط والألوان تنبئ بحركة عنيفة تحيط بهذا القلبوموسيقى صاخبة تتردد في أرجائه ?!..) إن الإجابة عن هذا السؤال تختزل
قصة حبهذين العاشقين إن لم تكن عنوانا مختزلا لقصة حياة مسعود بكاملها وحكاية كل حب : انجذاب فاشتعال، فتوهج حارق، ثم خمود فهباء فرماد تذروه الرياح ! لقد كان حب وريدهفي قلب مسعود سانفونية راقصة واعدة بكل جميل غير أن قصيدة (جاك بريفير) التي يدرجهاالكاتب بالصفحة عدد 249 تقلب المعادلة وتعود بالقارئ من جديد إلى الجمر الخامد فياللوحة الحزينة
"...
وأنحر في عزَ الضحى أحلى أحلام ليالي !..."
ويكون للسؤالالحائر الذي يطرحه البطل في مفتتح الرواية:
"
ترى هل سطر القلم الإلهي ما أعانيهالآن... "
دلالات شديدة الألم والمرارة حيث تغدو حياتنا مهما فعلنا قد سطرتهاقوة أخرى لا سلطان لنا عليها وعبثا نناطح الأقدار
ما يفعل العبد والأقدار جاريةعليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتلبالماء
نترك الآن هذه الأسئلة والتي لا نتوقع أجوبة قاطعة عنها ونحاول أن نقدمالرواية في صورة مختزلة جدا:
مسعود بطل الرواية شاب من شباب قصر مدنين انقطع عنالتعليم ليساعد أباه في تجارته ، يتعلق بفتاة يهودية من سكان الحارة ويهيم بها حبا،وتبادله هي هذا الإحساس في اندفاع وجسارة ، وتفضَله على(قاروص) ابن عمها اليهوديوالذي أصبح غريما لمسعود ،غير أن التقاليد متمثلة في والدي العشيقين، تحول دون ذلك،ويصرَ الحبيبان على الاقتران، مما يدفع بأبي الفتاة للهجرة إلى فلسطين هروبا من ( الفضيحة ) ! أمام هذه الصدمة التي لم يتوقعها ،يتمرد مسعود على التقاليد فيهرب ببغيجزائرية تدعى ( عويشة )إلى فرنسا، ثم تعود هي ذات مرة إلى الجزائر حيث تموت هناكويبقى هو في باريس يعيش عيشة بوهيمية يمارس حريته على هواه ويقيم علاقة غير شرعيةمع(برا ندات)، فينجب منها طفلة هي ياسمين، تكتشف أنها بنت غير شرعية، فيدفعها ذلكإلى التطرف السلفي، ثم تلتحق بالمقاومة الفلسطينية حيث تحب شابا من المقاومة تونسياهو الآخر ويتزوجان... يموت المقاوم كما تموت ياسمين بعد أن تنجب طفلا تختار له منالأسماء (مسعود) اسم أبيها،يكبر مسعود ويسافر إلى فرنسا باحثا عن أخبار جده فلم يجدإلا صاحبة العمارة التي كان يسكنها وتفتح له المرأة البيت حيث يباشر البحث فيمخلفات ذلك الجد من رسائل وصور زيتية وشمسية وبرقيات تلقاها في حياته وبطاقة سفرلرحلة إلى تونس لم ينفذها! فقد بقي في باريس وحيدا منكسر الأحلام في عمارة ينتقلبين طوابقها حتى يوافيه الأجل فيموت في صمت متفردا غريبا
هذا باختصار شديدالمنحني البياني الذي تعرجت عبره أحداث الرواية وهو كما نرى يخترق مساحات زمنيةومكانية شاسعة مما جعل العمل يلامس أحداثا كثيرة يعرضها بدقة عجيبة ولا يهمل أيحركة مهما كانت صغيرة وتافهة حتى استحال في كثير من الأحيان "شافطة" عجيبة تلتهم كلشيء ينعكس على مرآتها أو تستشعره مجسَاتها قريبا كان أو بعيدا تاركة جانبا،الاختيار والمفاضلة إلى الآخرين من المؤرخين والباحثين في العادات والتقاليدليستقوا مواضيع بحوثهم من هذا المرجع الثري جدا الذي يكاد لا يهمل شيئا.
استيرفي فؤاد مسعود جرح نازف لا يندمل، أٌقوى من الكحول وأرحب من القيثارة. كما يقولرامبو، ومن تذكرها تنبعث صرخة وينطلق الحكي عائدا إلى ماضي العمر ليمسح مسحا دقيقاكثيفا حياة قصر مدنين ملاعب الطفولة ومسرح الذكريات بكل ما فيها ومن فيها. كل مراتعالطفولة وملاعب الشباب زمن الفتوة والعنتريات والحب والحلم مدونة بين صفحات الروايةتدوينا صادقا دقيقا لا يهمل شيئا ولا يغفل عن حركة أو إشارة مهما بدت صغيرة تافهة ! حتى شفرة "الرِّبي" وهو يذبح الدجاج ،وقلوب القرع بلبها الأرجواني المكتنز ،وتنظيف " المغائث " من طرف اليهوديات،وبداية الصلع في رأس عريس ليلة الدخلة ،وهبة هواءتحرك لحية "حائيم " وهو فوق السطح يركب مروحة لتزويد بطارية الراديو الجديدبالكهرباء وطريقة انحناءة احد الشخوص وممن تعلمها ... إلى جانب ألعاب قديمة كانتموجودة بين الشباب والشابات في ربوعنا وبدأت تنقرض مثل (شيخ بلال ، وحلَت، وبَنّيبَنّي، وغيرها ) أو أغاني ترددها النساء ماجنة أو بريئة، كما لا تهمل صراعات شبابالحارة وفتوتها وبلطجيتها الصغار ومعاركهم وطرق بعضهم في تلقي اللكمات وتسديدها، وحتى رائحة القهوة والفطائر والبيرة التي تتضوع في فضاءات الحارة ! مركزا تركيزواضحا على حياة اليهود وسلوكياتهم في حياتهم العامة وفي بيعتهم ، يعيش البطل بينهمويشارك في أعيادهم وحفلاتهم ويواكب بمنتهى الفرح والاعتزاز حادثة تتويج حبيبة قلبه (استير) ملكة جمال الحارة .! ذكرتني هذه الطريقة في تسجيل كل شيء بقولة (لهنري ميلر ) مؤلف مدار السرطان في حوار له مع " كريستين دي بارتيا "نصها :
(...
كنت أريدأن أحشر في هذا العمل كل شيء ، حتى إني كنت أقول لنفسي كل ما أعرفه سوف أضعه في هذاالكتاب ...) وبسؤال آخر وجهته جريدة لوموند الفرنسية للروائي النمساوي بيتر هونكه :
"
قيل إنك تحذف ثلاثة أرباع ما تكتب قبل أن تقدمه للنشر ? " فأجاب :" لكي لاأزعج القارئ بثقافتي ، ولكي يجد الهواء فضاء يتجول فيه بين صفحاتي !"
إذا كانتالحارة هي المكان الذي استأثر بأكبر قدر من التركيز في هذا العمل برواتها وتجارهاومومساتها وأغانيها وتقاليد أعراسها وفتوتها مثل أبناء السرائرية (الذين يكونونعصابة منفلتة يهابها كثير من العائلات ) ودراويشها الذين يطلقون النار من عصيهمويصيبون أهدافهم ويتنبئون فتثبت نبوءاتهم !? فإن السرد كثيرا ما يرتاد فضاءات قصيةعن قصر مدنين في لمحات اتسمت في الغالب بالسرعة والإيجاز يأتي ذلك عن طريق شخوصوفدوا على قصر مدنين من بعيد أو غادروا ثم عادوا ( رشا الحلبي وما استتبع ذكرها منمعلومات عن جدها التاجر الدمشقي وما وقع له في أسفاره التجارية المختلفة مثلا ) حتىلكأن الهاجس التسجيلي هو الإستراتيجية الذاتية التي أنبنى عليها هذا العمل! كم هائلمن الأحداث تتعرض له الرواية، فأجزاء من تاريخ اليهود ( ص57 )، إلى الأسلحة الفاسدةأثناء احتلال فلسطين(ص124)،إلى هجرة بعض قبائل ورغمة إلى القطر الليبي، والصراعاتالتي دارت بين القوات الاستعمارية وبعض القبائل التونسية ، ومنصور الهوش،والودارنة، إلى صراعات العائلات التركية على الحكم في ليبيا ، إلى طرد الأسبانللعرب واليهود من الأندلس، إلى الفيتنام، وحروب العرب واليهود 67 و73 والمقارنة بين "نبوخت نصر" و "جورج بوش" من ناحية كون كل منهما غزا العراق ونكل بأهله بتحريضاليهود، إلى جانب النضالات السياسية لورغمة، وموقف السلط الاستعمارية من زيارةالزعيم بورقيبة للتراب العسكري ، وغير ذلك كثير مما جعل الرواية تأخذ طريقة الطبريفي مؤلفه (تاريخ الأمم والملوك )- والذي يتخذه الكاتب مرجعا ينطلق منه ويعود إليه! - في سرد الأحداث بطريقة لا تهمل شيئا يختلط فيها الواقعي بالعجائبي والتاريخبالخرافة ويطالها الاستطراد في مواضع كثيرة !
استعمل الكاتب أغلب تقنيات القص : السرد المباشر ، والحوار،وأسلوب المذكرات،التناص، والصورة زيتية وفوتوغرافية ،كمانوع الرواة حيث جعل الراوي الأساسي ،يفسح المجال لرواة آخرين ،إما بالسرد المباشر،أو بطريق إيراد مذكراتهم. كل ذلك في سبيل إنارة كثيرا من أقبية الحارات والمساكنالخاصة والأماكن قصية وقريبة ، وما يكتنف ذلك من علاقات بريئة ومحرمة حيث يعمد فيكثير من الأحيان إلى فضح المستور وتعرية بعض التصرفات المنافقة التي يحاول أصحابهاالتستر عليها بالتظاهر بالعفة والوقار تجارا كانوا أوسوقة أو قضاة أو حتى إخوةيتنازعون أبوة مولود !...
تستقطب الرواية في الغالب الطبقات الدنيا من الشعبتلك القاعدة العريضة من المجتمع التي تصنع الجزء الهام من تاريخ الأوطان وعاداتهاوتقاليدها والتي يهملها في الغالب مؤرخو السلاطين ولا يكاد يسمع لها ذكر إلا إذاادلهمت الأجواء وهددت المخاطر البلاد!حيث تكون هي وقود الثورات ودرع الوطن وذراعهالضاربة وصانعة أحلامه ! وكما هي في الواقع وفي هذا العمل أيضا ليست من الأنبياءولا من الشياطين هي بشر فيهم صلاح وطلاح وخير وشر وخبث وبراءة وهي بتفاعلاتهااليومية تصنع القيم والتقاليد والأخلاق منها ينشأ الساسة والزعماء والخونةوالقوادون والوصوليون ،الزنادقة والزناة وأهل الصلاح والخيرون، وكثيرا ما استهوتهذه الشريحة من المجتمع الأدباء والمبدعين عموما ولربما كانت أجمل إبداعاتهم هي تلكالتي تصور حياة هذه الطائفة! ولعل الجاحظ كان أول من التفت إلى هذه الشريحة وربماكان اهتمامه بها هو وحده ما منح أغلب آثاره الروعة والخلود! ولعله من الطريف أننلمح نوعا من التشابه بين أسماء هذه الطائفة عند كلا الكاتبين بالرغم من تباعدالأزمان حيث نجد في كتاب اللصوص للجاحظ أسماء مثل ابر يقيا ولوقيا ودوما ني ) مثلمانجد في سرنديب جلَك وفريتز والدَبرز والطابو . وغيرها...)
تنفتح الرواية علىنهايتها حيث يطالعنا مسعود وهو في آخر أيام العمر قد فتك به المرض ولم يترك منه إلابقايا إنسان، هجرته العشيقة وهربت مع شاب آخر... ولا عزاء له إلا في زيارات ياسمينالمتباعدة شيئا فشيئا حتى تنقطع في النهاية تاركة مسعود للوحدة تغتاله الذكريات ،ويتم عن طريق التذكر سرد كل الأحداث . حيث يعمد الكاتب إلى مسح شامل لأحداث جيلكامل بأدق التفاصيل أحيانا !
الفصل الأول خصصه الكاتب لحياة البطل في باريس حيثنكاد نلمح نماذج من أفكار المثقفين في الفترة التي أعقبت الحرب الثانية حيث ظهر فيأدبيات تلك الفترة ما يشبه الإحساس بعدم جدوى الحضارة وتخلخل المثل التي قامت عليهامن تسامح وحرية وتنوير وحلت الحروب والنزاعات وقهر الشعوب محلها، وظهر لهم العالمكأنه قد وصل إلى نهايته وبدأ يتحلل أخلاقيا واجتماعيا في مجون هستيري فنشأت اتجاهاتفكرية مختلفة، من لا معقول وسريالية ووجودية ودادية وعبثية وغيرها. يلامسها البطلفي ثرثرته المحمومة موردا جزءا من مسرحية "المغنية الصلعاء " التي كانت صرعة فيزمانها معلقا على أحداثها تعليق الناقد الخبير مما يؤكد انخراطه في أجواء المثقفينالباريسيين في تلك الفترة،وحضور بعض حلقات الحوار حول اهتمامات تلك الشريحة منمهمشي باريس ومدى ثقافته واطلاعه، كما يتناول الطبري بما يشبه التهكم من معالجتهللإشكالات والقضايا التي تطرحها الحياة مقارنا بينه وبين هولاء المثقفين .حيث يبرزالتقابل بين جدب الروح عند يونسكو وكثافة الحلم عند الطبري ! نكتشف مواجع البطلالوجودية وشكه وحيرته في أكثر من مكان في هذا النص، ففي ثرثرة بو عضلة الفحل مثلاتداع حر، فيه الفلسفة والدين والشك والحيرة أمام عالم يظل مغلفا بالأسرار عصيا علىالفهم وتكاد هذه الثرثرة تلامس أفكار ( يونسكو ) في الفصل الأول منالرواية.

سالم دمدوم بنقردان
في 15/09/2008

----------------------------------------------------------
1 -
عبد الرحمان منيف لوعة الغياب ص206
2-
الكسندر اليوت : أفاق الفن ترجمة جبراإبراهيم جبرا ص 53
3-
ملحمة جلجامش ص 70اللوح 10 العمود 3
4-
سرنديبص51
5-
سرنديب ص 13
6-
الحلاج
7-
جريدة أخبار الأدب العدد 349 مارس 2000
زار الصّفحة اليوم (زائر) 2 visiteurs
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement