قراءة في رواية "موسم التأنيث"
الإهداء : [إلى مريم صنعتها من وجعي فسكنت لي حين أوجعها الضياع]
هكذا تهدي المؤلفة روايتها إلى بطلتها مريم وهكذا نعي إن العلاقة بينهما أكثر حميمية وأشد تشابكا! ولعله من النادر أن يهدي المبدعون أعمالهم إلى أبطال أو بطلات هذه الأعمال غير أن بسمة البوعبيدي عمدت إلىذلك وكسرت العادة وتخطت أسوار المألوف وجعلتنا نتساءل :
هل أحبت الكاتبة بطلتهاحتى أخرجتها من المتخيل إلى الواقع ? لا غرابة في ذلك فالمبدعون يظلون أطفالا مهماكبروا. فمما يروى عن الكاتب الفرنسي (الكسندر ديما ) إنه ذات يوم دخل عليه أحدأصدقائه فوجده يبكي ولما سأله عن سبب بكائه تبين أنه أنهى روايته( الفرسان الثلاثة ) وأنهى بذلك حياة أبطاله ! وكذلك بسمة البوعبيدي من يم المعاناة صنعت بطلة حملتهاكل أوجاع المرأة في مجتمع ما زال يجيد قهر الأنثى وتكبيل حريتها بشتى الأغلالواعتبارها سلعة لا غير . احتضنتها بحنان الأم فأحست مأساتها بعمق وعاشت أفراحهاوأتراحها وعبرت بصدق وجرأة عما يكتنف حياة الأنثى من عذابات تظل مختبئة في دهاليزالمحذور بدعوى الحياء والحشمة بينما هي اختراق لقدسية الإنسان وانتهاك لخصوصيتهوكرامته
مهما يكن تظل العلاقة بين المبدع ونصه شديدة الالتباس والتشابك وتظلأفكاره وطموحاته وأحلامه حاضرة فيما يكتب مهما حاول الحياد ومهما عمد إلى الاختباءوراء ظلال أبطاله . هكذا نستشعر هذه العلاقة عموما ونعجز عن إدراكها على وجه الدقةوالتفصيل .
لنترك ذلك الآن و نحاول أن نقدم للقارئ ملخصا موجزا لأحداث الروايةلكي يكون لديه فكرة عامة عن وقائعها حتى يمكن إشراكه في هذا الحديث :
مريم بطلةموسم التأنيث فتاة صرع الحقد والغدر أمها إذ كان موتها نتيجة لسعة عقرب دستها لهاغريمة لها كانت تطمح إلى امتلاك زوجها ( والد مريم )فتم لهذه الغادرة ما أرادتوأصبحت مريم يتيمة بلا أم تعيش مع قاتلة أمها التي اتخذها الأب زوجة ثم اتخذ ابنتهاعشيقة ! تتطور الأحداث فإذا سالمة العشيقة ابنة الزوجة الغادرة تحبل سفاحا ويجيئهاالمخاض ذات فجر في أحد غرف الحوش تعمدت أمها وعمتها أن تكون في زاوية مهجورة اتقاءالفضيحة ولكن مريم تتنبه لما يجري فتتسلل إلى مصدر الصياح وتتلصص من ثقب المفتاحلترى كل شيء وتكون الشاهدة الوحيدة على الفضيحة والجريمة حيث تعمد المرأتان إلى خنقالمولود بمجرد أن يصرخ صرخته الأولى والأخيرة !...
مريم موعودة إلى ابن عمهاجعفر ، هكذا أراد الجد وبذلك أوصى ، وينشأ الحب مع رفقة الطفولة بين جعفر ومريم حتىيصير غراما متوهجا... وتجدَ أحداث ويجيء نظام التعاضد في ستينات هذا القرن فيخلخلكثيرا من الثوابت ويربك النسق الهادي لحياة الناس ويغير كثيرا من العادات والقراراتالعائلية ...وتجبر مريم على الزواج من رجل آخر، ويقبر حبها الوحيد وتعيش زوجة لمنلا تحب، تمضغ القهر والعذاب حتى ينتهي بها ما تعانيه من زوجها من قهر وإذلالواحتقار إلى إنهاء حياتها بفاجعة أليمة، حيث تعمد أمام سلوكات الزوج الحيوانية إلىتمزيق مهبلها بسكين فتموت !
الموضوع وإن بدا مستهلكا في بعض جوانبه فكيد النساءللنساء بما فيه من حسد وغيرة ومكر واحتيال معروف منذ قديم الزمان إلا أن الكاتبةارتادت به ناحية يعمها في حياتنا التعتيم حيث انفتحت الرواية على أنفاق بالغة الضيقوالظلمة تمارس فيها الخيانات والغدر والجريمة تحت جنح الظلام وتسللت إلى الحياةالزوجية وما يقع فيها في حالات كثيرة من تصرفات يرفضها الشرع والقانون والأخلاقالسليمة فاستطاعت بذلك شد القارئ إلى موضوعها وولدت في نفسه الرغبة في مواصلة تتبعأحداثها مندمجا في أجوائها منجذبا إلى عوالمها المتخيلة مشاركا أبطالها همومهموقضاياهم وصراعاتهم تأخذه أحيانا تلك الهزات المنفعلة فرحا وحزنا. وإذا هو علىمائدتها يحتسي كؤوسا مختلفة المذاق وإن غلب عليها طعم المرارة ، إلا أنها توفر لذةوتحدث انفعالا يصل إلى حد تخطي موقف الحياد بمفعول التقابل الدرامي بين قبح المشاهدالتي تعرضها وبين الروعة في تصويرها بذلك الأسلوب السلس واللغة الناصعة التياستعملتها الكاتبة لتصوير أفكارها والتي تستحيل أحيانا إلى صور شعرية رائعة
إذاكانت (موسم التأنيث ) تتغيا الغوص في حياة الأنثى وكشف ما يحيط بها في حياتهاالخاصة من ملابسات وما تعانيه من الآم تسببها المعاملة اللا إنسانية التي يعمدإليها أحيانا بعض الرجال متخذة من محيطها ومن عاداته وتقاليده بعض السلوكياتالمريضة موضوعا سلطت عليه الأضواء وكشفته للقارئ بمنتهى الشجاعة والصدق، فإنها إلىجانب ذلك سلطت الضوء أيضا على حقبة من التاريخ التونسي المعاصر كانت على قصرهابالغة التأثير في الشعب غيرت كثيرا من عاداته وطرق تعامله وأسلوب معيشته هي فترةالتعاضد وما انطوت عليه من تطبيق متعسف للاشتراكية في ستينات هذا القرن حيث مثلتوثيقة هامة تسجل تلك الفترة وتدينها بطريقة المبدع بعيدا عن المباشرة والتبشير وذلكحين تصور الحياة في واحات الجريد قبل التعاضد وما فيها من يسر وتناغم وسعادة تنعكسعلى المتساكنين في إقبالهم على فلح أراضيهم بطرق وأساليب توارثوها من قديم الزمانوأحسنوا التعامل معها، وبين ما ساد الحياة في هذه الواحات من اضطراب وفوضى زمنالتعاضد وكيف انعكس ذلك على سلوكهم وممارساتهم اليومية
تظل هذه الرواية موسومةبسمة العنف المأساوي في نهايات أبطالها : نهاية مريم ، ونهاية أمها قبلها نهايةجعفر ،نهاية قصة الحب بينه وبين مريم ،نهاية الوليد الذي أخمدت أنفاسه إثر الصرخةالأولى نهاية الواحات حين فارقها اخضرارها المتوهج ونكست هاماتها جراء ما أصابها منتطبيق نظام التعاضد
ويظل مشهد الختام في هذه الرواية أشد المشاهد إيلاما وأكثرهاعنفا وسادية يصور بكثير من العمق والجرأة ما يجري في حياة كثير من النساء وراءالأبواب المغلقة حيث تتحول المعاشرة الزوجية التي يفترض وينبغي أن تؤثث فظاءاتهابالحب والحنان والود لخلق علاقة حميمة بين الزوجين تتيح ذلك التواطؤ المضمر بما فيهمن حنان ودفء الذي يضفي عليها روعة وهناء يتحول كل ذلك إلى عملية اغتصاب فجة تحطمالنفس وتهدم شخصية المرأة وتسحق إنسانيتها وتحيلها إلى أحط أنواع الحيوان لأنهابحكم الطبيعة هي المتضررة والمستباحة والمقهورة فيحدث ذلك في نفسها شروخا فضيعة قدتدفعها إلى الإجرام!
تلك هي مآسي مجتمعاتنا حيث تكون المرأة فيها سلعة لا غيرأداة للهو والمجون في كثير من الأحيان أوعية صديد لا تملك أن تريد أو لا تريد تعيشممزقة بين الخضوع والتصدي بين الرضاء بالقهر والتعسف وبين المقاومة والاحتيال فيمحاولة لصيانة الذات من الوقوع في الرداءة . نلمح سلوكها هذا خلال المدونة السرديةمن شهرزاد في ألف ليلة وليلة إلى حسنة بنت محمود في موسم الهجرة إلى الشمال للطيبصالح إلى يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم . وإذا كانت شهرزاد قد احتالت بالقصوالحكايات لترويض الذكر واتخذتهما وسيلة لتنجو من السياف فإن حسنة بنت محمود قدعمدت إلى التصدي المباشر وطعنت الحربة بالحربة واستأصلت جبروت الذكر في الذكر...أمامريم بطلة موسم التأنيث فقد دفعها إحساسها بالقهر إلى أن تنتقم من نفسها ومن ضعفهافعمدت إلى تمزيق نفسها وإنهاء حياتها بهذه الطريقة المأساوية وفي ذلك احتجاج صاخبرهيب،فيه رفض للذات وللطبيعة ، ورفض للأنثى تماما... إنها تحتج على معاملة الرجللها، على مفهوم العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة في ذهن الرجل الكبش، وعندما مزقتما مزقت فإنها تزيل مبتغى الذكر في الأنثى تماما !
لا نجانب الصواب بالتأكيد إذاقلنا إن الكاتبة قد نجحت في تبليغ قضيتها وأجادت تصوير أحداثها وأظهرت شجاعة نادرةوجرأة كبيرة إذ اقتحمت كهوف ( التابو )المظلمة وسلطت الأضواء الكاشفة عليها فعرتدهاليزها السرية بطريقة جعلتنا ندرك جيدا شدة المرارة والقهر المسلط على مريم حتىلا نكاد نتقبل سلوكها السادي العنيف مع نفسها
تظل هذه الرواية موسومة بميسمالعنف والقسوة مشتملة على مشاهد تنضح مرارة وألما مشهد سالمة في حالة مخاض وقد حملتمن سفاح ، مشهد خنق المولود بمجرد أن صرخ صرخته الأولى،مشهد العراك بين الفتاتينوقد تطور إلى عنف شديد تمارسه إحداهن عن الأخرى ويصل إلى حد تجاوز المباح ولا أتصورقسوة تتجاوز ما عمدت إليه إحداهن ضد غريمتهاوهما ما زالتا صغيرتين تلعبان بالخرز !
أما أشد المشاهد غرابة عجائبية فهو مشهد اختبار غشاء البكارة :
" قلن لهالا بد من الاطمئنان على عذريتها بتفقد غشاء البكارة قبل الابتداء في مراسم العرس ! اشتعل جسدها رعبا، وزاغت نظراتها، وسقط صوتها في أحشائها ... حملنها وأوصدنا دونهاسبل النجدة ...طوقنها وفتحن ما بين فخذيها ... رأت في وجهها بشاعة الدنيا وهي تهمبها ... عجوز غريبة النظرات والهيئة ، ترفع أمامها يدا عجفاء ذات أصابع طويلة تعششالقذارة تحت أظفارها !.. شكتها الأظافر القذرة بين فخذيها ...حين غاص إصبع الجحيمفيها متحسسا باحثا ، التهب القبل والدبر قبل أتتقيأ "
تعمدت أن أنقل هذا المشهدللقارئ كما رسمته الكاتبة لإطلاعه على ما فيه من رداءة تثير في النفس أشد حالاتالتقزز بما يكتنفه من قهر وتعسف كانت تسلط على الصبايا ( بناتنا ) من طرف شمطاواتجاهلات انتصبن حارسات لأردأ العادات وأشدها إجراما !
سمعت الكثير عن ألاعيبالعجائز مع الصبايا الصغيرات ولكن هذه العجيبة مثلت لي إضافة فريدة من نوعها لم أجدمثيلا لها لا عند ( كافكا ) ولا ( راسبوتين ) ولا غيرهما من روَاد الغرائبي والعجيبسلوكا وإبداعا مما يدفعني إلى أن أشكر الكاتبة ، أشكر لها شجاعتها لولوج دهاليزالمستور لفضحه وتدنيسه ورجمه وتأليب الناس عليه حتى تقع محاربته واجتثاثه وتخليصبناتنا من شره فالرواية – أي رواية – كما يقول غالب طعمه فرمان:" أقل ما توصف بهإنها شجاعة مكتوبة معركة إيمان قبل كل شيء" .
هكذا تتجرأ بسمة البوعبيدي في سبيلالدفاع عن قضيتها على اجتياز الخطوط الحمر التي رسمتها أعراف وتقاليد جائرة فكسرتحصون التابو وسلطت الضوء ففضحت وأوضحت وتسللت إلى أخفى الخفايا في جسد المرأةبطريقة مغايرة لما يعمد إليه بعض الكتاب الراغبين في الشهرة السريعة والنجوميةالمبتسرة فيوظفون مشاهد الجنس وكشف المستور من جسد المرأة توظيفا فجا يهدف إلى شدالقارئ المراهق لا غير فكل ما كشفته كان موظفا هادفا بعيدا عن المجانية ولإغراءوكانت ملتزمة بقضيتها أمينة لموضوعها همها الدفاع عن بنات جنسها مخلصة لوسم تأنيثهاويبدو أنها نجحت في ذلك وحققت الهدف الذي تنشده فأحدثت الرجة المطلوبة التي تخلخلالمألوف وتهز أركان العادي لإخضاعه للمساءلة والدرس لتحديد موقف سليم منه .
يقولهنري جيمس :" إن اختتام الرواية من أكثر النقاط خطرا لأنه بالضبط المنطقة التييختبئ في أدغالها الوحش الجمالي ، وهو مصدر المقاومة المضادة في الرواية ، وتحت وجهالغزارة المحسَن تختفي الصورة المروعة للأجل المحتوم !"
ذكرني بهذه المقولةالنهاية المأساوية المفجعة للرواية ووجدتني وجها لوجه مع هذا الوحش الجمالي الذييثير الروعة والرعب في نفس الوقت .
هذه خواطر تولدت في ذهني وأنا أفرغ من قراءةموسم التأنيث وبما إن هذا العمل هو الأول للكاتبة في جنس الرواية فإني استطيع القولإني ألمح في كاتبته فسيلة نخل ثابتة الجذور سوف تنمو وتزدهر وتأخذ مكانها قريبا بينباسقات النخيل في غابات الإبداع المخضوضرة على الدوام .
سالم دمدوم
بنقردان في 24/05/2007