غدا تخلع الشمس بردتها
ديوان شعر للمبروك السياري
- الجزء الثاني –
أوحت بها هذه القصائد
زرعتها فيهديل الحمام
في اختلاج اللون في ريش الحجل
في صياح الديك كلما الفجر أطل !.
غدا تخلع الشمس بردتها
يعود الحزن مرة أخرى في شكل مرثاة للأهل الذينمضوا امتلأت بأطيافهم الأطلال تهتف لنا أرواحهم بأن نكون ورثة العزة وحماة الديار :
مضى الأهل ملآ الطلول بهم
لنا دون كل البرية منهم هتاف
مضوا والقلوبمعلقة عند أولهم
عنبر ريحهم وهواهم عفاف .
عنبر ريحهم وهواهم عفاف . كميأسرني هذا المقطع المضمخ بعطور الطهر والقداسة ! حين يقترن الحب بالعفاف والهوىبالطهارة يستحيل هذا الصوت ترتيلة وجد، وأذان فجر ، ينطلق من مآذن النفس ليغمرالكيان كله ، وترانا أقرب إلى أجواء الصوفية من جديد! ...
غدا تخلع الشمس بردتها
لئن لمحنا ملمحا صوفيا في هذه القصائد فإننا نستشف كذلك رومانسية خفيفة أدىإليها بنظرنا سؤال الهوية :من نحن كيف هو واقعنا في هذا الزمان، ما هي أحوالنا ،ماذا يراد بأوطاننا وأهلنا، كيف كان أجدادنا . ؟ كل هذا مبثوث خلال القصائد مجدولبوهم المطلق . وهذا الواقع لا بد أن يحدث في نفس أي مثقف واع شيئا من الحزن يذكرهبزمن كان أجمل. وهكذا تكون هذه القصائد كما هو منطق الأشياء متأثرة بالواقع العربيوما يجري فيه من أحداث أليمة ... تحاول إقامة شبكة علاقات جيدة مع التراث والأديانوالأساطير والعادات والتقاليد والتاريخ قريبه وبعيده لتكتسب هويتها وخصوصيتها تختاربحاسة جيدة بين رشح الذات ودلالات الأسطورة لتصنع شعرية النص ومجازه باحثة عنالأجمل والأكثر إيحاءا وتلاوما مع طبيعة الشعر...
هكذا تستحيل هذه القصائد إذاخلوت بها واحتضنتها بحنان ونزعت بينك وبينها هاجس الارتياب ،" صلوات في هيكل الحب" حينا، وتنتصب أحيانا ذاكرة قومية حارة وموجعة إذ تحيلك على سومر والفرات وحمو رابيجلجامش يبحث عن عشبة الخلود كما تحيلك على القدس وانتفاضة الحجارة وعلى أوجاع ليلىالمريضة في العراق تلك التي تسرح جدائل أغلالها- ( لا شعرها )- كما تفعل النساءالعاديات ! فتستحيل الكلمات مفاتيح آلة عجيبة تختزن أحداثا وانكسارات وشروخا تجللواقعنا الحزين ويكون مبررا جدا ما لمحناه من حزن يتسلق منارات هذه القصائد . حينتكون جدائل صبايانا أغلالا وسلاسل تكبل حلمها وتكرس عبوديتها ،حين تستباح الأوطانوتدمر الحضارات لا مناص من ألم يأخذ بالنفس مهما حاولنا غرس الرؤوس في الرمال !
غدا تخلع الشمس بردتها
أهديت هذه القصائد إلى صديقة شاعرة فكتبت حولها مايلي : ... ذوب العطر في كف النسيم ،بوابة الملكوت تنفتح على فضاءات الدهشة ،تزرع فيبساتين الروح مشاتل الانبهار والصلوات والبهجة تعيد للنفس بكارة الفرح الأول وعفويةالانجذاب نحو العفة والطهارة والجمال فإذا أرواحنا تغتسل بالأمل وإذا الأمل ينتفضمن خلال رماد اليأس كما ينتفض طائر الأسطورة من خلال الرماد ! وإذا قصيدة انتفاضةالهباء تقول ذلك بوضوح :
تهز إليها بجذع الجسارة ليلى
وتدعو الأهازيج من كلصمت عميق
فيعلو نشيد المكان ...
ثم تقول تلك الصديقة :
يحمل إلينا هذاالشاب على كفوف الليل أقمارا ونجمات ونيازك! لعبا وأحلاما ، أشواقا غجرية تختزنأنفاس المراعي وأصداء القطعان رغاء الجمال ودندنة قوافل البدو ينامون على أسرةالرمل ومخالي الفرسان" تعوي من الفقد " تحرك فينا الحنين إلى الماضي وتزرعنا منجديد زيتونا ونخلا وسنديانا وزعترا وحلفاء ودفلى وعلندي في جبال هويتنا وصحارىتاريخنا وسهوب انتمائنا القومي وحتى الروحي بما نتشممه فيها من أنفاس عطرة لإيمانصادق وتدين سمح جميل. كما تحيلنا في كثير من الأحيان على مواجعنا وصعوبة أقدارناوصراعاتنا مع عنقاء هذا الزمان مصلوبين ننزف قهرا كما تندلق الأحزان من شفة مذيعةعربية يكاد يخنقها الدمع تمضغ حزنها وتروي ما وقع ! قانة في إثر قانة وشهيد في إثرشهيد والفارس العربي ترجل حين أسقطه جواده وباع سيفه وعلى ملعب رقعة الأرض وضع خدهتحت أقدام أفيال الزمان ! بين ارتجافات الذهول وانبهار الدهشة وسطوع الحلمواشتعالات الخواطر ووخزات الأوجاع تبعث هذه القصائد في ركود المألوف ما يشبهانفجارات النيازك!
غدا تخلع الشمس بردتها
حين كنت أحاول قراءة هذه القصائدعدت إلى نماذج من الشعر الحديث لمجموعة من الشعراء أمثال : قاسم حداد ،وصلاح عبدالصبور ، وبدر شاكر السياب ،ونازك الملائكة ، ومحمود درويش ،ومحمد علي شمس الدين،وأدو نيس ،وجمال الصليعي . كما رجعت لبعض قصائد الصوفية وحاولت المقارنة بينهاوبين قصائد شاعرنا ، فوجدت قصائده تكاد تكون مماثلا كفؤا لكثير من قصائدهم ! صحيحأنك تتشمم ريحهم في بعض قصائده كما نشم أحيانا عطرا من العطور فنلمح فيه بحاسة بينالحدس والاعتياد رائحة زهرة نعرفها فنقول : إن رائحة هذا العطر تذكرنا بالزهرة " كيت وكيت " كالنرجس والياسمين أو الورد أو غير ذلك مما يتوفر في الطبيعة .ولا لومعلى شاعرنا إن هو خالط الحدائق التي استنبتها كبار الشعراء طويلا وتشمم عطر زهورهابذوق وصبر لكي يختار بين رحيقها وشذاها ما يعجبه ليستقطر منه مادة شعره ثم راح يجدلقصائده الخاصة بوهج الموهبة ومحصول الدرس والمثاقفة والإطلاع . ليس في ذلك عيب علىالإطلاق وإلاَ لماذا نعمد إلى معاشرة كبار الشعراء والمبدعين الجيدين ? وكيف نتثقف ? وكيف نطور طرقنا وأساليبنا ? وكيف يتقدم الشعر ويتطور ?!
لا شيء يولد من لاشيء . ومن خلال الملاحظة والتقصي يتبين أن العمل الأدبي الرائع أقرب إلى أن يكون دورةلسلسلة من الجهد المتصل والدرس الواعي وليس هو فلتة سعيدة لعبقرية غير مثقفة . إنالمبدع يكون مثمرا بقدر ما يستطيع أن يحاور المدونة الثقافية التي تهمه فيصنع روائعجديدة : قصورا ومآذن وعمارات شامخة من بقايا الحضارات التي مرت واختفت و لكنها خلفتما فيه للملاحظ الفطن الشيء الكثير .
غدا تخلع الشمس بردتها : برغبة الاستمتاعوحدها أقف عند بعض المقاطع سباني جمالها وأسرتني روعتها .
©وجئت تنوح ... هناكان لي مكتب ودواة
ومر التتار ... وكان خلاء كضيم
إلاهي ... يصفق من وحشةقصب الذكريات
أحس هنا أحزان طفل أو شاعر واقفا على خرائب بيته وقد أحالتهالعنقاء إلى كومة من ركام ! فقد الأمان وفقد أدوات المعرفة وفقد الأمل عندما مرالتتار ولا يملك إلا أن ينوح . عندما يتقصد الشاعر اختيار المكتب والدواة بين كلأشياء المنزل المهدم فإنه يحيلنا على المأساة الحقيقية وهي إن العنقاء تستهدفحضارتنا ورقينا بالدرجة الأولى ،تجهيلنا وإرجاعنا إلى العصر الحجري كما قالها بعظمةلسانه ذات يوم سيد العنقاء !!
© تهز بجذع الجسارة سلمى
وتدعو الأهازيج من كلصمت عميق
فيعلو نشيد المكان ...
نلمح بوضوح ترسم الأسلوب القرآني بما له منروعة وإيجاز وصفاء لغة إذ يحيلنا هذا المقطع على الآية الكريمة "وهزي إليك بجذعالنخلة ..." وعلى الآية :"... وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق . "
وعند التأملنرى ذكاء في التعاطي ومهارة في التوظيف وجودة في الصناعة تشابه جودة صانعي العطوركما قدمنا سابقا ، سلمى لا تطلب رطبا ! هي جائعة لشيء آخر ،إلى جسارة وانتخاء تزيلعنها أغلالها وقهرها تصرخ مرعوبة : "وا معتصماه ..." " ليت للبراق عينا فترى ... " ولكن لا من مجيب ! صمت رهيب ، خنوع ذليل يسم المشهد الملتهب !?غير أن المكان يعلوفيه النشيد وينبت أمل ويمزق الظلمة أخيرا شعاع رجاء فينشأ رفض للعنقاء ويبدأ نصبالفخاخ لها في كل منعرج وطريق .
©وسلمى متى وشوشته مناها
أتى مثقلابالمراثي الخطاف ...
أول ما يطالعنا في هذا المقطع إدراك جيد لقدرات اللغة علىالتشكل بأشكال عديدة للاحتيال على المعنى والمحافظة على روعته وجماله . سلمى تساررأمانيها وأحلامها في خلوة نفس فيجيء الخطاف مثقلا بالمراثي ! من يرثي هذا الخطاف ,? ما دواعي الرثاء ? ماذا وقع ? هل انتكست الأحلام وخابت الآمال وضاعت الأماني في هذاالزمن العربي الرديء ?!
ربما تتبدد هذه الحيرة وهذا التساؤل عندما ندرك إن سلمىوخولة وليلى وهند ما هن إلا رمز للأمة العربية بأسرها يتخذهن الشاعر حبيبات مزروعاتفي الروح والتعلق بهنَ تعلق بالهوية والأصالة
كن نساء بحجم النساء
وكنابدورا بليل الغريب
فليس لأنوارهن ضفاف
قرأت كثيرا من الشعر حول ما قالتهالعرب والأعاجم في النساء ولم أعثر على مثل هذا القول في المرأة !! نساء بحجمالنساء . حجم خولة ابن الأزور والخنساء ويا منة دحبور و جميلة بو حيرد وعائشةوفاطمة الزهراء ... نساء بحجم تلك العجوز التي صلب ابنها وتركه الحاكم على الخشبةإلى أن تأتي أمه صاغرة وتعتذر ! وانتظر طويلا حتى بدأ الجسد المصلوب يتآكل فجاءتأمه بكل الشموخ والكبرياء لتقول لهذا الحاكم :
أما آن لهذا الفارس أن يترجل ?!
يطول بناالحديث لو توقفنا عند كل الصور الجميلة المبثوثة بسخاء في هذهالقصائد الجادة التي تبشر ولا شك بميلاد شاعر مقتدر يطلب التفرد ويسعى إليه جاهدا طوكل من يسعى فلا يضنيه السعي جدير ببلوغ بر الخلاص " كما يقول جوته
وإذا كنت قدرأيت في هذه القصائد مسحة صوفية من جملة ما تتصف به فذلك لأن التصوف كما يقول ابنخلدون في المقدمة نزعة فردية طبيعية في كل إنسان لأنه حنين الروح إلى مصدرها الأولولاعتقادي بأن الشاعر الجيد والصوفي العارف يلتقيان أحيانا في ما يعتري المبدعينأثناء لحظة انكتاب النص من سورة التوتر المرهف خلال سبحات طويلة بين التأمل والخيالمتسلحين بشدة الصبر والاحتمال في إصرار النمل وحرص شغيلته حتى يتيح لهما ذلك التأملاللهوف والغوص الصادي لحظة الفرح والانتشاء ، لحظة امتلاك الكلمة في عذريتها الأولىواقتناص الفكرة في توثبها وشرودها :" غوصة فعثرة فرجة فتصور ثم صدمة يكون إثرهاالفوز فوز يبرمه حوار مواثيقه شهقات محتضر "
نلمح لحظات العذاب هذه عند كثير منالمبدعين ولطالما اشتكى منها فحول الشعراء وإيمة المتصوفة حتى إن الفرزدق وهو فحلمضر في زمانه صرح مرة قائلا : تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من عملبيت من الشعر ! ولقد لمحنا هذا الملمح في قصائد المبروك السياري حيث بدت لنا منحوتةمن روح الشاعر وعذاباته وإصراره محتفظة بخصوصيتها تصنع شعريتها وجمالها من ثقافةمحترمة ومعرفة دقيقة بما للغة من قدرات خارقة على إبداع الصور والأخيلة إذا ما أجيدتوظيفها ولقد قيل : في كل قصيدة ناجحة قصيدة ثانية هي اللغة . في ختام هذا الحديثلا يسعني غلا أن أقول لهذا الشاعر الشاب :
ظمئت ، هات أخي ، واسكب ثمانية أخرى ،وظن خيرا ولا تسأل عن السبب !
بقلم سالم دمدوم
-------------------------------------
1 كتاب السد ص 9 ط 1955 شركة النشر لشمال إفريقيا
2 صحيفة أخبار الأدب المصرية 03/09/2006
3 غدا تخلع الشمس بردتها ص 49
4 مسرحية سالومي يأليف اوسكار وايلد
5 أحلام الفارس القديم ص 121 منشورات دار الآداب بيروت
6 الشاعرة الليبيةبدرية الأشهب _نقطة ضعف ص 34 الطبعة الثانية
7 غادة السمان :شهوة الأجنحة
8 احمد بو زيان _كتابات معاصرة ص82العدد61 أيلول 2006