رواية المتهمون لسالمدمدوم: من ضد من؟ الوجع والبوح
بقلم فاطمة الزياني
في البدء
الروايةالرائعة بنظري تجعلني اهتز ألما وطربا بذات الوقت، تجعلني في حالة حب.هذا الشعورضخني به "المتهمون "للكاتبسالم دمدوم .أخرجتني من دوائر الصمت الذيدفعني له واقع الصدمة حيث صار الألم أكبر من القلم ،لكن هذه الرواية استفزتنيفأدركت أننا متهمون بالدفاع عن النفس وأيقنت أن القضية الأساسية في الرواية ،هيقضية وطن متهم وجلادوه يرفضون حتى سماع أقواله ،هم جلاديه ليس البحث عن الحقيقة بلالإدانة فحسب !
هذه الرواية أسقطت الستار مرة واحدة فجاءت مضطرمة وحاسمةوموجعة
من ضد من...أوحت لي صورة الغلاف بهذا العنوان وهي تجيب عن هذا السؤالببلاغة الرسم الموجزة .
من ضد من؟
يقول المتهم الأول "حين تصير متهما رغماعنك ،وتصبح في علاقة تصادمية مع محققين لا يهمهم في الغالب غير تجريمك ولا دليل لهمحتى الساعة غير سماتك الخاصة ولون سعرك وبشرتك وأنت واثق أنك بعيد كل البعد عنالتهمة ،بريء منها براءة الذئب من دم يوسف ،لا بد أن تحس بكثير من المرارة والخوف "ص 16
البطل في هذه الرواية مواطن بريء يتسم بكثير من الطيبة والصدق والحلم،يسافر على ظهر "نيو زيلندة " من أجل حضور مؤتمر .ترمي الصدفة في طريقه النادل عبدووعشيقته ريما وعندما يصل بلاد الثلج يلتقي صدفة أيضا صديقته ليما .
الكاتبيأخذنا لنقتفي أثر هذا الصحفي في رحلة لا تطول كثيرا ولكنها تطالنا جميعا! وهو لايضعنا أمام حشد كثير من الشخصيات بل هم قلة، لكن كل شخصية تخوض صراعا مدوخا يكتسحالحواس جميعها بما أننا طرف في ذلك الصراع أو معنيون به ما دمنا في حالة مواجهة معالظلم
الكاتب يضعك وسط معركة لن تكون فيها متفرجا ما دمت تحس بوعي ..تعددتأشكال المواجهة في الرواية والعدو واحد ،فعدو ريما هو الجنرال" الذي يتاجر بالفتياتمن شرق ارويا ودول البلقان وإفريقيا وآسيا ،يقدمهن إلى سفينة الملذات ويأخذ عمولةعلى ذلك "ص 38
وعدو ها "جنود يدخلون البيت ويأخذون أباها"ص 112
وعدوها الذيأحرق منزلها "نسفوه بدعوى إقامة مستعمرة لمهاجرين جدد ...صادروا الحلم والأملوالحاضر والمستقبل فقتلوا الأمان في أعماق نفسي هاهو أملي الأخضر الحالم قداغتالوه،أصبح كومة من أحجار ،واسمنت وحديد يتوهج قرميده المهشم الحزين ،وينزف حمرةبلون الدم ،وأنا حياله أحدق في المجهول غبية بلهاء عاجزة "ص138
وعدوها الذي قتلفواز "وفي عشية عيد الميلاد ،جاءتني مجموعة من الأطفال أغلبهم دون المراهقة يحملونفواز الصغير على أيديهم ملطخا بالدم ،ورصاصة حاقدة قد انفجرت في صدره الطاهر ويدهالصغيرة تحمل حصاة لا تقتل حتى عصفورا تشد عليها بإصرار "ص153
وعدوها هو الذيقتل زوجها سرحان...دوَامة من الألم والقهر تعيشها ليلى قبل أن تصبح ريما ،وعدو واحديظهر لها في وجوه مختلفة ،فهو تاجر رقيق لا ضمير له يتواطأ مع الفقر ليشتري الفتياتالصغيرات من براثنه ويستخدمهن في خدمات دنيئة تغتصب إنسانية الفرد وتغتال ضميره .هذا الرجل الذي يلقبه البعض بالجنرال يكون هدفا لريما التي قتل زوجها وطفلها،فتقتله ليقينها أنه أحد وجوه أعدائها فالشخصية بعدما فقدت كل أحبتها أصبحت تعاديكل ظالم وكل مجرم ،صارت تنتصر لكل مظلوم وتسانده ،ريما أيقنت إن القتل هو الردالوحيد على القتل ،وهي تقدم للقارئ تفسيرا مؤلما لما آلت إليه قائلة :
"من لاوظن له لا إله له.ومن تختل علاقته ومن تغتصب بلاده،تغتصب كل المقدسات ،والشرائع فيضميره ،ويمكن أن يمارس أفعالا تنتهك حقوق الناس وتصادر حرية الآخرين ،وتسبب لهمالكوارث والمآسي عندما تسرق البسمة والأمن من الآخرين فلا تنتظر باقات الزهور ولابسمات الترحيب والفرح تقابل بها من الناس أينما لقيتهم،ذلك مخالف لطبيعة الأشياء "ص 110
ربما خاضت معركة قذرة فخرجت منها بلوثة القتل ،سيطرت على كيانها فوضعتهاعلى جبهة القتال فقط ، ما حدث لريما هو تماما ما حدث لكل إنسان أخرجه ظلم الأقوياءالأشرار من دائرة الأمان إلى دائرة الخوف والدماء .
وعدو النادل عبدو هو الذيقتل والده ورمى به إلى رحلة صحراوية شاقة هربا من البطالة والموت ،يلتقي أخته ريمايواصلان رحلة الثأر معا فيشتركان في قتل الجنرال .
عبدو إذا شاب موجوع يتحولوجعه إلى رغبة ملحة في الثأر من أي ظالم أيا كان وأينما كان ،لأنه يمكن أن يظلمآخرين مثله وأخته .
وعدو السارد هو عدو زوجته الصحفية ليما التي تذهب لتغطيةأحداث الحرب في بلاد البساتين والنخيل ،ويشاهد في التليفزيون "ليما بمنتهى الوضوحتدفع بوحشية وعنف من طرف أحد الجنود وهو في أشد حالات العصبية ،لكنها تصر علىالتشبث بمكانها وعدم الابتعاد .ثم تتبادل معه حوارا متوترا فيعمد إلى سبها ويحاولافتكاك الكاميرا منها وتتشبث هي بها بشجاعة ولكنه ينجح في افتكاكها منها ويدفعهابعنف فتتعثر وتسقط ،ولكنها تقوم مسرعة فتلتحق به وتتشبث بآلتها من جديد وإذا بجنديآخر يفاجئها من الخلف بضربة على رأسها فتسقط خائرة القوى تتلوى من الألم ص159
وعدوه أيضا من يضعه "على ذمة التحقيق متهما بمساعدة الإرهاب"ص160
يتحولالسارد من صحفي إلى متهم بالإرهاب ،ومن عاشق لليما إلى متهم بالتستر على مجرم،تختلط الأوراق وتتقاطع حكاية كل شخصية مع الأخرى لنجد أنفسنا أمام عدو واحد هوأمريكا وحلفاؤها ومتهم واحد هي الشعوب التي تحتلها أمريكا .
رحلة قتل ولدت مزيدامن القتل ،أبطالها يعيشون فينا ومعنا ،يعرضها أمامنا الكاتب بالصوت والصورة فنجدأنفسنا مع ريما وعبدو والسارد وليما ضد الجنرال والمحتل في فلسطين والعراق فالكاتباقترب وشاهد وأدرك أن الظلم وليد الحقد والحقد يلد القتل والقتل يدمر كل وجوهالجمال في الحياة .
الكاتب عرض علينا عينة مما يحدث أمامنا وبيننا يوميا فلم نجدمن خيار سوى الوقوف على جبهة المتهمين بالإرهاب فقط لأنهم يرفضون الظلم والقهروالاحتلال.وإذا كانت هذه الثنائيات المتعادية تجعل الرواية أقرب إلى المباشرتيةالسياسية منها إلى الرمزية ،فلأن طبيعة القضية التي يعالجهادمدومسياسية بالأساس ،وهذا لا يتنافىمع الفن والإبداع "فالمبدأ الذي يلتقي على أساسه رجل الثورة والفنان هو مبدأ التحررالإنساني" 1
فالكاتب سياسي ينتمي إلى حزب الإنسان المظلوم ،يدافع عنه وينتصر له،وهو في هذه الرواية يواجه المجتمع بصراحة المبدع لابإديلوجية السياسي والسارد فيهذه الرواية ليس في حاجة لتجاوز الخط الأحمر،لسبب بسيط ،هو سقوط الخط الأحمر .فالقضية تعيش معنا والروائي أسقط عنها ملابسها وقبعتها وأزال مساحيقها وعطورهاوأجرى كشفه .
سيكولوجية المكان في الرواية
لم يعد المكان في الروايةالحديثة مجرد إطار للأحداث، بل صارت له وظائف متنوعة،لأن الكاتب أصبح يكثف مصادرالإيحاء حتى يجعل نصه نابضا بالحياة محتدما .
القارئ لرواية المتهمون يدرك أنالمكان قام بدور البطولة فيها ،فمعظم الأحداث على ظهر الباخرة "نيوزلندة "التي كانأسمها "غرناطة " فكل اسم مشحون بمعنى أساسيه علاقة تاريخية بما يجري،فغرناطة رمزلسقوط المجد العربي في الأندلس فهيإذن رمز لمرحلة السقوط يليها التحول بسم" نيوزلندا " أي الأرض الجديدة التي ترمز للمرحلة الانتقالية التي ينعدم فيهاالانتماء ،وتترجرج فيها الهوية وسط احتمالات الغرق .نجد على ظهر السفينة السارد رمزالأحلام الباحثة عن أوطان تؤويها ،وعبدو وريما المثخنين بالقهر حتى الجريمة . ونجدالجنرال يوقع بالفتيات الفقيرات في شباك الغواية لتأجيرهن في سفينة الملذات ،المكانالآخر الحامل لكل أشكال الرذيلة واللوثان ،وقد كان خبر سفينة الملذات أول صدمةيتلقاها السارد من عبدو فيحتج قائلا "لكن هذا عمل يفتقر إلى القيم ولا يتناسب معكرامة الإنسان وهو نوع من العبودية إن لم يكن أسوأها جميعا .قال لي :القيم ، كرامةالإنسان،قدسية العمل ،أشياء لا يهتم بها هذا النوع من الناس .يهمهم فقط أن يكسبوامالا في ميكيافلية عجيبة "ص22
بهذه اللغة الشفافة ينقل لنادمدومما يجري حولنا بجرأة فذة لاتحتمل رموزا .
أما على اليابسة فسالمدمدوملم ير ضرورة لذكر أسماء بعينها لأنه يعول على قارئ يدرك إن المكان من جنس الحدث فهوحينا "عبارة عن مكان في أحد شوارع تلك العاصمة الحزينة المترامية الأطراف علىجانبيه بساتين وأشجار نخيل "ص144 هو إذن تراوح بين العراق وفلسطين وهي مناطق القهروالقتل اليومي .! والمطار هو النقطة الانتقالية التي يتحول فيها السارد من باحث عنالعدل والحب إلى متهم بالإرهاب ،يقول:
"وفي المطار تحققت أسوأ مخاوفي حين وجدتنفسي موقوفا على ذمة التحقيق متهما بمساعدة الإرهاب "ص160
الكاتب لا يحمل جيناتالعنصرية والحقد ولذلك فإن السارد العربي يتزوج من ليما الصحافية الأجنبية التيتجمع بين ما "ورثته عن أمها الألمانية مع تلك الصفرة الذهبية المتوهجة التي يمتازبها أهل جنوب شرق آسيا والتي انحدرت إليها من جانب أبيها "ص58
ونظرا لإيمانالسرد بأن الظلم ضد الإنسانية جمعاء فإنه جمع أجناسا عدة يقفون ضد الظلم رغم إنهممن بلدان بعيدة عن الحروب والصراعات فالهوية الوحيدة للواقفين ضد الظلم هي الإنسانالساعي لتحقيق العدل السارد يكشف عن العلاقة بين الشخصية والمكان حتى لا يترك مجالاللهروب والبحث عن الأمان خارج الأوطان .يقول على لسان ليلى :
نحتاج دائما لكينشعر بفرحة الحياة ،إلى ما هو أكثر من الحب والحبيب ،الحب وحده طائر حزين معطوبالحنجرة مكسور الروح ،لايهب لحن الفرح الذي نبحث عنه لا يمنح الأمان العاطفيالمطلوب ،حتى نشعر بحب الحياة ونشارك في صياغة أفراحها .وفوق ذلك يحتاج كل طائر،إلى غصن آمن يستقر عليه وفضاء حر ،تسرح فيه أحلامه ..."ص128
بقدر ما حشرالكاتب في هذه الرواية من صور الظلم والقهر والقتل المنظم وغير المنظم إلا أنالمتضررين في روايته دوما يحلمون بتآخي الديانات والسلام للجميع .يقول على لسانليلى "...نحاول زرع الفرح والابتسام في جميع كل الناس وعلى شفاههم ،عربا ويهودا،مسيحيين ،ومسلمين ،وبوذا نزرع في حديقة كل بيت وردة ،وفي كل حقل سنبلة قمح وشجرةبرتقال وزيتونة ننذرها للسلام ،السلام الذي اغتالوه في قلبي وفي قلوب أخرى كثيرة "ص111
نقلدمدومالواقع الراهندون تزييف وسعى قدر الإمكان كي لا يعطي هذا الواقع المضطرب فرصة إضافية كي يتحولإلى ثابت مثل الهزيمة في مجتمعنا العربي ! السارد في التعامل مع واقعنا العربي ليسفي حاجة ليفضح لأن الفضيحة معروضة بالصوت والصورة على شاشات الفضائيات ،وهذا لايلغي دوره إنما هو يخاطب كل واحد منا على حدة بعيدا عن الضجة الإعلامية والصورالنازفة
"الروائي يراقب ،يرصد ،يجمع ،ثم يسجل ،قد يكون متفائلا أو راغبا لكنهيرصد النبض ،الحالة ،وأيضا يضع الاحتمالات وهذا لا يكون من خلال شعارات ومواعظ،وإنما من خلال البشر.ومن هنا فإنه ربما مثل ميزان الحرارة ،يستطيع أن يقرأ المجتمعفي حالته الحقيقية ،وأن يقدر الاحتمالات أكثر مما يستطيع السياسي الذي يقرأ المجتمعمن خلال الرغبات والشعارات،وأكثر من الذي يأخذ جانبا بذاته لكي يقرأ المجتمع "2
الخاتمة
سالمدمدومقارب موضوعا خطيرا نعيشه يومياونعتقد أن الفضائيات تكفي لرسم صورته بالدماء ودخان الآليات المحترقة وأصواتالمرعوبين ،وقدم صورة موجعة لما يجري تنذر بمزيد من الدمار مادمت تتهم بالإرهاب،بلا دليل "غير سماتك الخاصة ولون شعرك وبشرتك "ص16
رواية الغليان هي "المتهمون "تحرضك ضد الظلم وتستفزك لمواجهته بقوة تغريك بالسلام والأمن والحب وتهزك بالقهروأشكال الهزيمة .سمى الكاتب الأشياء بمسمياتها في الرواية واستخدم لغة فاتنةببساطتها ،وأسلوبا سلسا جذابا يشدك حتى تصبح مشاركا في الأحداث لا مجرد محلل لها .ولم يكن في حاجة للإيغال في الرمز رغم أنه استفاد من أسماء المكان ،ورغم كثرةالتفاصيل واكتظاظها إلا أنه وفق في الربط بين هذه التفاصيل ربطا ديناميكيا عميقايطور الشخصيات ولا يكررها ،يدفع الأحداث ولا يقفز بها يحلل المواقف ولا يكتفي بسردها 3
دمدوميمتلك شجاعةالمبدع الأصيل بدخوله دوائر الصراع العالمي المدوخ بين قوى الشر والشعوب المستضعفةأعزل إلا من صدقه وإيمانه بالعدالة والحرية والحب لجميع البشر.