قــراءة في روايــة :"خبر النقيــشة"
لســالم دمـدوم
كل عمل فني إيمان بخصوبة الذهنالبشري والحياة البشرية والعالم المحيط بهما
وأعمال كل فنان تعبير عن مدى هذاالإيمان
يوسف الشارني
"دراسات في الأدب العربي المعاصر"
ليس اعتذارا... ولكنه إخبار
(ورقة منفصلة)
بدءا،اعترف أن الكتابات التي لا افهمها، هي الكتابات التي تشد اهتمامي أكثر. وهذا القولليس مطلقا ولكني اعني به أن هذا النوع من الروايات التي ترتقي إلى مستوى من النضجالفني، وتحقق ارتفاعا نبيلا عن الاستسلام المهين لقارئ عرضي متطفل لتمتنع عنالمحسوبين على المطالعة الجادة أولائك الذين يقتنون الكتاب لمجرد التباهي بامتلاكهأثاثا منزليا أو أداة مكتبية متروكة على الرفوف أو معروضة للزوار للافتخار بامتلاكهتظاهرا بالثقافة وادعاء للمعرفة دون العناية بقيمته الحقيقية أو اعتبار محتواهالمعرفي، بلا ادراك واع لمسؤوليتهم تجاهه فيكتفون بامتلاكه، أو على أحسن الأحوالالتبجح بأنهم اطلعوا على محتواه. ولست هنا بصدد تمجيد المؤلف و لا المؤلف، فقد افعلذلك خارج هذه الورقات ربما، وقد لا افعله، فكلاهما ليسا بحاجة إلى ذلك...
كلقصدي أن انبّه: فلتصن الكتابة الإبداعية نفسها عن الادعياء لتتبوّأ مكانتها الجديرةبها لدى القراء الذين بكفاءتهم يصنعون بقراءتهم الجادة النص من جديد، ذلك أنالقراءة عملية إبداعية وهي في الحقيقة كتابة أخرى للنص.
أن هذه الرواية دوّختني،وقد تهيّبت الكتابة عنها لفترة طويلة وبقيت أحوم حولها ردحا من الزمن غير قصير قبلأن أزج بنفسي في حضنها وأنحشر بين أحداثها فأنأى في متاهاتها لا اعلم لي وجهة ولاقرارا.
ولا اخفي عنكم أنها أقضّت مضجعي ليال طوالا، فقد استعصت عليّ واعصوصبتوتمنعت رغم مرافقتي لها لصيقا منذ بدايات نشأتها الأولى شذرات أفكار مشتتة في ذهنصاحبها، مشروعا مازال كاتبها يخطط له من بعيد، فقد كان يحدثّني قبل انطلاقه فيكتابة النص عن تصوراته الأولية لهذا العمل الجديد ويشكو لي كثيرا من تردده طويلا فيالإقدام على الانجاز أو الإحجام عنه، ولعل ذلك كان من الأسباب الرئيسية في اضطرابفهمي للكتاب، اذ بدل أن يكون ذلك معينا لي على فهم النص الروائي فقد انعكس فعلهسلبيا ليعرقل في ذهني هذه العملية، فاختلطت عليّ الأمور وتداخلت الأحداث: لقد قضمتالتفاحة فجّة. وأنا أرافق خطوات ما كتبه المؤلف في كل مراحله. واكبت نشأته لبنةلبنة ثم كان لي شرف الاطلاع على هذا المشروع، مخطوطا انتهى مهندسه من طرحه علىالورق في نسخة أولية. وتواصلت رحلتي مع الكتاب خلال عملية الطبع التي أصيبت بعسرالولادة في تجربة أولى سماها كاتبها ولادة مشوّهة ورفضها لمجرد وجود بعض أخطاءمطبعية هيّنة أو لخلل فني خاص بهندسة النص على الورقة حرصا منه على احترام القارئوسعيا لإرضائه، أو غيرة على إنتاجه ربما...
ورغم معاشرتي اللصيقة للنص، فقدأخفقت في السيطرة على المشهد الروائي العام وتراقصت أمامي ظلال كثيرة متداخلةومربكة حتى اتهمت نفسي بالقصور فهادنت النص مدة ثم عدت إليه أخيرا قبل كتابة هذهالورقات ولم يبق على موعد تقديمها إلا نزر من الوقت قليل، ولكن اشهد مع ذلك أنقراءة الرواية قد حققت لي متعة أخرى لم تتح لي في مخالطتي لغيرها مما قرأت إلانادرا.
هذا الكلام السابق كله ليس محاولة مني في التماس عذر أو البحث عن تبريرلموقفي، لقصوري دون إعطاء هذا الأثر حقه من الدراسة والتعمق والتحليل، فأنا أولىوأوّل من يتحمل مسؤولية ذلك اعتبارا لما تهيّأ لي من فرصة مواكبته منذ البداياتالأولى حتى استوى عملا فنيا متكاملا وانتهى كتابا مطبوعا بين يدي القارئ...ان هذاالكلام يخصني ولا أقصد به تحذيرا أو تنفيرا، ولا اتخذه ايعازا للترغيب في مطالعةهذا الكتاب وتحفيزا على اقتنائه. انه اعتراف وكفى واعلم أن هذا القول لا يخص القارئفي شيء فلكل قارئ إمكانياته الخاصة واستعداداته الشخصية وإستراتيجيته المعيّنة فيالتعامل مع الكتاب عموما ولكل قناعاته في مدى الإقبال أو عدم الإقبال على المطالعةكظاهرة تزدهر أو تضعف بين مختلف العصور ومن جيل إلى آخر تبعا لأسباب وظروف لسناالآن في مجال ذكرها وتحديدها ولكن بعض ما قلت قد يعني بعض من جرّب عذابات التأليفوالطبع، وخاض تجربة التوزيع المريرة وما يعتورها من إحباط، ولكن كل ذلك وأكثر منهلا يمنحنا ذريعة الاستقالة من الالتزام به فنحن مدعوون –كل من موقعه- إلى أن نصمدونغالب لإعادة الاعتبار للكتاب أمام الوسائل المناوئة له ولنا في ذلك اعتبار وتقديرخاص لكل من تجرأ على خوض مغامرة الكتابة والإصدار في زمن كهذا أصبح فيه الكتاب آخراهتمامات الناس.
الرواية التجديدية الجديدة:
خبرالنقيشة نموذجا
يلاحظ المتتبع لحركة نمو الرواية العربية تطورافارقا في هذا الجنس الأدبي خلال المرحلة الأخيرة بما يمثل دخولها طورا جديداوتجديديا على مستوى الشكل والمضمون كليهما.
أما على مستوى الشكل فقد تخلصتالكتابة السردية وتحررت من الرومانسية والغنائية وانعتقت من مسار"الحكي" المطّردوالوصف المباشر للأحداث لتدخل عبر نماذج من هندسة البناء المعماري المختلف تجنّد لهأدوات ووسائل نوعية بحيث استفادت من السينما والمسرح والفن التشكيلي والشعر وغيرهامن الفنون الأخرى لتكتسب بذلك ظاهرتها الجديدة ضمن انساق توائم بين منطقها ومنطوقهاوتوظّف اللغة عملية إبداعية فاعلة في انجاز المضمون والإحالة الايعازية على الهموموالاهتمامات التي يزخر بها النص الروائي الحديث.
أما على مستوى المضمون فقدتمردت الرواية الحديثة على الأطروحات الكلاسيكية وانتهجت القطيعة مع الإيديولوجياتوالمثالية فانسحب البطل المحوري النموذجي ليصبح الحدث في حد ذاته هو البطل الحقيقيوالغي الإطار المكاني والزماني. وتجاوز كتاب الرواية الجدد هيكلة نصهم على الابعادالثلاث للمد الحدثي في تطور الحركة السردية الذي اعتمدته الرواية قديما طيلة مرحلةتاريخية ممتدة على مجال من الوقت غير قصير والذي يمثل اتجاه الأحداث عموديا بتطورظاهرة التأزم تصاعديا إلى حد بلوغ العقدة وهي قمة التوتر ثم الانعراج باتجاه تنازلينحو الحل وانفراج الأحداث لتصبح الكتابة الروائية اليوم مجموعة من التفاعلاتوالعلاقات الداخلية بين مجموعة من العقد والتازمات والانفراجات والأبطال والشخصياتالمتراوحة بين الظل والضوء إلى جانب تقاطع المواضيع والاهتمامات وتنافرها أوتناسقها مع الخطوط المرسومة على مفارقات هي صورة أخرى لهذه الحياة الصاخبة المحتدمةبما فيها من أسئلة حارقة ومتاهات تأبى أن تتوقف عند نهاية ما. أنها تمثل بحثا دائباعن أدوات جديدة تمنح الكاتب قدرات إضافية على التعبير عن علاقة الإنسان بواقعهالمتغير.
الرواية الكلاسيكية توثيقا للواقع والرواية الجديدة تجسيد لرؤية لايقينية في ما يستجد ضمن الواقع.
الروائي سابقا يتم العمل ويمكن منه قارئه جاهزامستجيبا للاستهلاك السهل السريع أما روائي اليوم فانه يتعامل مع القارئ كشريكويتعامل مع الرواية باعتبارها عملا فنيا مفتوحا لا نسخة من الحياة أو صورة طبقالأصل من الواقع اليومي المعيش، لذلك صارت العناية موجهة نحو التقنيات المعتمدة فيبناء عمل فني ما وهذا ما يدعو إلى تمرد هذا الفن على ذاته بحيث يطرح كل ثوب له قبلأن يبلى معتمدا تقنيات متجددة متطورة تتشكل من الخطوط الدقيقة في تفاصيلها الصغرىلانساق الحياة المتغيرة باستمرار.
الرواية الجديدة ليست اطمئنانا ومناخات رضىبل هي حيرة وانبهار وطقوس شك وريبة وتردد نتيجة إفرازات الحضارة ورد فعل الإنسانتجاه ذلك. وتبرز تجليات الخطاب السردي خارج مناطق الايدولوجيا السائدة والذي تجاوزهالنص الروائي الحديث ليطرح الإشكاليات المتعلقة بفن الرواية اتساقا مع التحولاتالكبرى التي افرزها تطور الاتصال الجماهيري وقد بدأ هذا الفن يستقطب اهتمام النقادوالدارسين حتى لقد افتعل البعض صراعا وهميا على السيادة بين الرواية والشعر ولسنانرى مبررا لافتعال ذلك بل ان الجنسين يتقاطعان ويتكاملان بدل أن يتزاحما على خريطةالإبداع الأدبي.
مدخــل:
الأرضتروي تاريخها نقشا على الأحجار-اثر الزمان على المكان-
الحياة تخلّد ذاتهابالنقش على صفحة الطبيعة من خلال نحت المناخ على التضاريس لترك بصمات تسعى صامدةلمغالبة الزمن: لوحات تشكيلية يرسمها عامل الوقت على وجه الأرض غضونا وأخاديد، ومنالنقيشة ما لا يرى: نقش الأحداث على الذاكرة وآثارها على الوجدان خطوطا لها أسباب،كدمات وندوب لا تنسى.
من ها هناك تنطلق الرواية من عنوانها:" خبر النقيشة" والنقيشة نقوش، وشم على الجسد، تواشيح مطرزة على السجاد الشرقي، زخارف عربية علىواجهات المساجد أو على أبواب القصور السلطانية وقبل ذلك كله، رسومات الإنسانالبدائي على المغاور والكهوف الجبلية لغة أولية للتخاطب والتواصل وبث رسائل مرموزةمرورا بالعلامات التصويرية على رقيم الألواح الطينية في الحضارة السومرية القديمةفي بلاد الرافدين من عهد آشور وكلدان، والكتابة المسمارية على أبراج بابل القديمةوالكتابة الهيروغليفية في مصر منذ سنة 3000 ق م وغير خافية أهمية الكتابة ودورها فيالتاريخ تسجيلا لمسيرة الإنسان وتخليد عبقرية الأمم والشعوب وحفظ الذاكرة الجماعيةحين يتلاشى المخزون الشفوي ويندثر. فلنكتب إذن. ولنقرأ أيضا ، فمن لا يقرأ لا يكتبطبعا،ولا ننسى أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بذلك في أول آية نزلت على نبيهالكريم محمد صلى الله عليه وسلم في قوله:
بسم الله الرحمان الرحيم: اقرأ باسمربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّمالإنسان ما لم يعلم،
صدق الله العظيم
نفتح باب الرواية
منذ البداية يحيّدالكاتب نفسه ويضفي على البطل اعتبارا سابغا عليه مواصفات البطولة فيجعله "رجلامتعدد المواهب له قدرة على تبليغ أفكاره للآخرين بطريقة مشرّفة وجذّابة"
ويبدوالكاتب شديد الحذر دقيق الاحتراز تجاه الجميع: الأحداث، الشخصيات والقارئ وما ينشأعن ذلك من علاقات وتفاعلات ليضع القارئ أمام مسؤوليته منذ عتبة النص وهكذا يفصحالمؤلف عن حياده التام تجاه الأحداث.
وإذا كان الكتّاب يبحثون لاهثين عن مادةخام لبناء أركان الحدث الروائي ويجدون في النبش في التفاصيل الدقيقة لنسيج خيوطالنص فيكلفون أنفسهم عناء ويتحملون إجهادا لا مناص لهم منه لبلورة العمليةالإبداعية فان صاحب "خبر النقيشة" قد استدعى الأحداث لتتهيأ له بيسر وسهولة إذجعلها تسعى إليه بتلقائية تنم عن درجة عالية من الخبرة والكفاءة وهو يربط بينهاوبين الشخصيات والموضوع والأحداث دون مشقة (أو هكذا يبدو) ويدفع بنا إلى الولوجالمباشر والانخراط السريع في الالتحام بما يحدث وقد تحصن وورطنا، فألقى بنا فيالخضم وانسحب ليوهمنا بالموضوعية والبراءة في، ومما يكتب، ولكنه يبقى هنالك علىالطرف الآخر من الركح يدير الأحداث ويوجهها من خلف ستار (فقرة البداية) وحين يتسوغالكاتب لبطله منزلا كان يسكنه في ما مضى طبيب سابق، يوفر له ذلك المدخل الضامنللتدرج بنا إلى خضم الأحداث التي تنطلق بنا من داخل حقيبة فيها ملف اصفر يحويأوراقا مجهولة المصدر يعثر عليها الراوية في صندوق سيارته الخلفي يكتشف في ما بعدأن لا علاقة له بها، فتوحي البداية بنفس يحيلك إلى الروايات البوليسية، فالحقيبةتوحي بالأسرار، وتغري بحب الاستصلاح ما يخلق لدى القارئ أسباب الرغبة، غير أنالراوية يحيد نفسه منذ المنطلق، ويضعك مباشرة في تيار الأحداث بسرعة وتتعقد لتجدنفسك في خضمها، تجوس مع شخوصها خلال مغامراتهم فلا تملك إلا أن تلتصق بهم وتتعقب فيلهفة وشوق كل ما يحدث لكل واحد منهم فاعلا أو منفعلا... ان الطريقة التي تسرّبت بهاتلك الحقيبة إلى حوزة البطل طريقة مشبوهة تثير الكثير من الشكوك التي تتسلل إلىمسرح الأحداث وتبقى مسيطرة عليها إلى آخر ردح فيها.
الحقيبة تحتوي على ملف أصفر،فيه أوراق تضعك مباشرة أمام لغز كبير يواجهك منذ الوهلة الأولى. انها حقيبة طبيبشاب كان يسكن ذلك البيت، وقد سافر مرتين خارج الوطن فقضى نحبه في المرة الأخيرة،هناك بعيدا خلف الحدود ودفع حياته ثمنا لتعاطفه مع الآخرين ممن هم في حاجة إلىخدماته، وحدها حقائبه عادت، تنعاه وتشهد بعبقريته وكفاءته الطبية ... هذه الأوراقلا تخص الطبيب نفسه، ولكنها تخص أحد مرضاه المسمى:"أحمد عنبه"، رجل لغز في ازدواجشخصيته التي تكشف عن فيلسوف معتوه أو معتوه فيلسوف فلا ندري أي الصفتين سبقتالأخرى، هل كان فيلسوفا انتهى به الأمر إلى الجنون أم أن الرجل جن فصار فيلسوفا (الورقة 2 ص 13).
لقد اتسم هذا الملف بالتداخل والغموض ليكون عنصر الإثارة مبنياعلى ثنائية الوهم والواقع تنعقد فيه الأحداث على خط وسط بين الحقيقة والخيال في مايحدث في حياة الإنسان العادي وما يضفيه المجتمع من هالات أسطورية ومزايدات في نقلالأخبار الغريبة والمستجدات المسترابة ( ارجع إلى الورقة الأولى ص 12).
ان احمدعنبه هذا شخصية غرائبية تنطوي على أسرار والغاز وأحاج بين اللوثة الفكرية والإشراقالروحي ولكنه مثقف من طراز عال بل و فيلسوف أيضا، وهو يذكرنا بمصطفى سعيد بطل روايةموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، شخصية جمعت كثيرا من المتناقضات ما جعلها محلاهتمام الناس والطلبة. رجل مصاب بالصرعة النفسية وله عالمه المليء بالأسراروالغوامض والإنسان بطبعه ميال إلى الخرافات والأساطير.
يقول (ص 14):" انظروا...هاهو الزورق يتقدم... انظروا....انظروا....نظرنا إلى البحر فإذا هوكالعادة ساكن هادئ، به موجات صغيرة تتكسّر عليها أشعة القمر وتتوجها أحيانا فقاقيعبيضاء ولا شيء غير ذلك ولكنه واصل قائلا: " الم تروها ....؟ تأملوا جيدا. انهاعلياء ومعها هدى....هيا معي نستقبلها".
هاهنا الحلقة المفقودة في حياة احمدعنبه. فمن هي علياء؟ وما علاقته بها؟ ومن هي هدى؟ وما علاقتها بعلياء؟... يا له منشخصية غريبة (احمد عنبه) يشد اهتمام المحيطين به يشد انتباههم و يستثير عطفهمويرعبهم في نفس الوقت...، ثم نكتشف في ما بعد أن احمد عنبه الحالي كان في ما مضىدكتورا مشهورا قادرا في مهنته ونقرأ في:" صفحات من مذكرات الدكتور مسعود ص16" ما بهتصبح الأمور جديّة وتشي الأوراق ببعض الحقائق التي تراءت لأحمد عنبه هذا الرجل الذيفقد عقله في خضم أحداث العالم، ولكنه وجد ذاته في هذا الهذيان الذي يفضح بعضالحقائق- واقع بعض الشعوب المنافقة في هذا الزمن الرديء- ويثير قضايا متزاحمة: سؤالالهوية، سطوة العلم والإعلامية، موقف من المعلوماتية التي تلغي وظيفة المكانوالزمان وعلاقة الفرد يهما، وتهمش إنسانية الإنسان وهذه كارثة، نكبة تورث الشعوربالانبتات والتلاشي والذوبان.
يقول في الصفحة 17: " تجتاحني أحيانا حالةلامبالاة غريبة، لم يعد لأيّ شيء طعم: لا الشعر، ولا الفن، ولا الموسيقى. الأمكنةأصبحت تثير في نفسي نوعا من العداء لها...أحيانا أحاول أن أخلو بنفسي فلا أجد فرصةلذلك، تحاصرني الآلة من كل مكان. الحاسوب في المنزل، الحاسوب في المكتب وفي المحفظةوالهاتف الجوال والقار والفضائيات على اختلاف أهدافها كلها تستبد بي ولا تترك ليفرصة الانفراد بذاتي كي ارتب نفسي من الداخل، أعيد تأثيث ذاتي على نحو صحيح".
انالرجل يعيش فوضى داخلية عارمة كأغلبنا على كل حال، وهو يسعى إلى ترتيب فوضاه فلايتمكن ويتساءل:" هل تغيّرت الأشياء أم أنا الذي تغيرت؟"
هذا السؤال المزعجالرهيب. من منا لم يسأله؟ ولكن من منا استطاع أن يجد له إجابة مؤكدة يطمئنّ إليها؟ويبقى السؤال معلقا دون جواب، وثمة شعور بالإحباط واللامبالاة.
يقول:" بعد أنتمر العاصفة ويتوقف هدير الرعب، سيعود الهدوء إلى الأشياء..."
ولكن العواصف لاتهدا قبل أن تحطم كثيرا من المعالم، وتعبث بكثير من الأشياء وتبعثرها، فتخلّفوراءها وجها آخر بشعا دميما لحياة ممجوجة لن نستسيغها بسهولة. كل شيء قد تغيّر وفقدالعالم براءته إلى الأبد في وضع دموي رهيب حيث انحسر دور الإنسان أمام العلم ليصبحمستهلكا غبيا. أن العلم يشيّئ العالم و " سيظل دائما ثمة أشرار يهيئون الولائملكلاب البحر والبر وللآخرين مواكب العزاء والحسرة".
هكذا يكون انزياح الأحداث منالخيال إلى وصف الواقع الراهن، الواقع الثقافي المتداعي وعبودية الإنسان في حصارالآلة فهل أصبح التقدم العلمي والزحف الالكتروني لعنة؟ هاهو العالم يغتال الحب فيفقد الدكتور مسعود لحبيبته التي وقع اغتيالها ذات سفرة وتكون فاجعة الغياب فكيفنستطيع أن نوفّق بين المحافظة على من نحب وتركه يمارس حقوقه وحريته العلميةوالثقافية؟
قلنا أن احمد عنبه هو نفسه الدكتور مسعود الذي أصيب بصدمة نفسية سببتاختلال مداركه العقلية فوقع إيواؤه في المستشفى لمعالجته، ونشأت علاقة روحية وفكريةووجدانية بينه وبين الدكتورة المتابعة لحالته: مطر عبد السلام. ان اختيار اسم مطرله دلالته النصية ولا يمكن أن يكون اعتباطيا. ان الحب يظل الملاذ الوحيد والأخيرللهروب من روتينية الحياة،وعنجهية الحضارة التي همشت إنسانية الإنسان وثمة حرقةخفية لفاقد امرأة أحبها ذات جنون حبا خاطفا عاصفا ولكن لم يدم، حب استثنائي حدثبسرعة واختفى بسرعة مخلّفا وراءه حسرة واسى.
من جملة أوراق الملف كذلك، مذكراتناظر المستشفى الذي يعالج فيه الدكتور مسعود، وجزء من رسالة قديمة، وأخبار فيصحيفة. هكذا ينوع الكاتب أدوات صنع الحدث لتتداخل وتتضارب وتتناقض وتتكامل وتتماهىوتعمل على إرشاد القارئ بقدر ما تفتح له المتاهة وبالتوازي مع كل هذا يطفو علىالسطح نقد خفي لظاهرة النفاق في المجتمعات الدينية في تعاملها مع الدين ( انظر ص 30) حيث تبرز في غضون النص خطيئة الإنسان التي يسعى دائما إلى التكتم حيالهاوالتستر عليها ولكن:" كلنا لآدم وادم من تراب. والتراب، أي تراب يحتضن الصلوات،ويحتضن الخطايا أيضا.
هكذا يوظف الكاتب أوراق هذا الملف المريب للولوج إلىأطروحات فكرية خطرة وخطيرة وإثارة قضايا معاصرة كبرى تقلق بال كل واحد منا نحنأبناء هذا العصر المهجنين في مخابر العلم الحديث.
على مستوى الهندسةالمعمارية للهيكل البنيوي للرواية
[size=18]نلاحظاشتمالها على جزئين:
1 – ورقات وتمثل عرضا لمحتويات الملف الذي وجد بالحقيبةالمدسوسة قصدا في صندوق السيارة، وتوظيف ما تحمله من معلومات في إرساء القواعدوالأسس التي ارتفع عليها بناء الرواية وقد كانت بمثابة المواد الأولية التي هيّأتلهذا البناء أن يقوم وان يثبت على أرضية صلبة وبمواصفات معمارية يطمأنّ إليها، هذهالورقات يمكن إدراجها تحت عنوان: الوثائق، وهي مجموعة من الأوراق عددها عشرة وتشتملعلى: مذكرات ورسائل وأخبار صحفية، تصحبها أحيانا حواش وتعاليق وتغطي الجزء الأول منالرواية إلى حدود ص 43 ويمكن تصنيفها كما يلي:
أ) المذكرات: انهيار القناعاتوامتداد دهاليز الرعب
ب) الرسائل: حسيس البوح الوجداني/ تواشيح اللغة على همسالعواطف: وثمة مقاطع بنكهة الشعر: يقول في صفحة 27:" في عينيها تتألق الربىوالسهول، وتتقافز في شبه سباق لاحتضان الالق والنور والزرقة العجيبة التي تتغلغلبها السماء في ابريل وماي، بذخ السنابل وخصب الحقول، غناء الرعاة وثغاء القطيع وميسالقطا وهزج الحجل، وأنفاس المراعي".
ج) الأخبار الصحفية: صدى تخلخل البناءالاجتماعي: إيحاءات بعيدة ذات ملامح نقدية ومنها: احمد عنبه يتصدى إلى خزعبلاتالعقلاء، ص 32/33
د) مصادر مختلفة للخبر: لسان الشارع وتواتر الإنباء، ومنها : احمد عنبه يعالج جنون البقر ص31، إيحاءات بعيدة نشتمّ منها رائحة النقد السياسيللقوى المتغطرسة في العالم.
2 – الجزء الثاني من الرواية وهو الأطول ويمتد من ص 41 إلى صفحة 125: الخروج من الوثائق ويندرج تحت العناوين التالية:
الحلم / فيصحبة الأميرة / خبر الدليلة / هندسة الروح / بوادر الشك / رحلة صيد / في ضيافةإبليس / هدايا إبليس / عودة الراهب البوذي / مخلفات الحلم / الحيرة
ويمثل ما كتبتحت هذا العنوان الأخير أطول فصل في الرواية كلها يمتد من ص 65 إلى ص125 محتلا بذلكثلث مساحة الرواية، ما يؤكد أن هذا العمل الروائي إنما هو وليد حيرة ومثير للحيرةوممثل لها وان الحياة كلها سؤال وحيرة أمام كل شيء فيها ولا يسعد بها إلا من امتلكالاطمئنان الغبــي.
في النهاية يعود النص إلى الورقة عدد 10 ليختم بها هذا العملالروائي بالوثيقة الأخيرة على كلمة "انظر" فعل أمر للغافل المطمئن المنساق معالتيار المتواطئ مع زيف القناعات ذلك الذي لا يستعمل النظر – والنظر نظران- فماأحوجنا إلى أن ننظر بتبصر ووعي إلى حالتنا البائسة في هذا العالم المليء بالتحدياتالذي بدا الإنسان فيه يفقد إنسانيته أو يتنازل عنها. وما أحوجنا إلى أن نعملالتفكير في وضعنا الخادع و نعيد النظر في علاقتنا بكل هذا الطوفان الجارف منالمظاهر الكاذبة حتى على مستوى العلم والدين .
و تكون الخاتمة بتعليق صغير ينبهإلى أن في الوثيقة اسطرا مشطوبة و تاريخا غير واضح – ومتى كان التاريخ واضحاوموضوعيا - و الإنسان الأناني يطمس معالمه و يغيره باستمرار بل و يدنّسه فلا شيءواضح لدينا في هذا الكون لا شيء يدعو إلى الاطمئنان.
وأخيرا يتوقف لكاتب عنالكتابة و تستمر أحداث الرواية خارج النص لتبقى مفتوحة على التأويل فاتحة في ذهنالقارئ أبوابا لا متناهية للشك والحيرة، مجالا للتفكير وإعادة النظر في كثير منالقيم والقناعات السائدة يقوّض بعضها بعضا، فالرواية في الحقيقة جملة من الثنائياتالمتصارعة المتصادمة منها ثنائية الانتصار والانكسار في سيرة الدكتور مسعود/ احمدعنبه، ثنائية الوهم والحقيقة في (الحلم) و(مخلفات الحلم) ، ثنائية الزيف والصدق،الواقع والخيال، المادي والروحي... إلى آخر هذه الثنائيات المتضاربة التي انبنتعليها هذه الرواية المراوغة المبطنة صورة لحياة الإنسان الفرد يتلاشى أمام هيمنةالمجتمع المنافق... فكيف يمكننا أن نميز بين الحقيقةوالوهم...؟
كيــــف.............................؟؟.
خربشات على خبر النقيشة
للهادي العثماني
*كل عمل فني إيمان بخصوبة الذهن البشري (يوسف الشارني – دراسات في الأدب العربي المعاصر )
...إن هذه الرواية دوّختني وقد تهيبت الكتابة عنها لفترة طويلة وبقيت أحوم حولها مدة من الزمن غير قصيرة قبل أن أزج بنفسي في حضنها وانحشر بين أحداثها فأنأى في متاهاتها لا أعلم لي وجهة ولا قرارا ولا أخفي عنكم أنها أقضت مضجعي ليال طوالا ...
الأرض تروي تاريخها نقشا على الأحجار – أثر الزمان على المكان –
الحياة تخلد ذاتها على صفحة الطبيعة من خلال نحت المناخ على التضاريس لترك بصمات تسعى صامدة لمغالبة الزمن لوحات تشكيلية يرسمها عامل الوقت على وجه الأرض غضونا وأخاديد ومن النقيشة ما لا يرى : نقش الأحداث على الذاكرة وآثارها على الوجدان كدمات وندوب لا تنسى ...
من هنا تنطلق الرواية من عنوانها " خبر النقيشة " النقيشة نقوش وشم على الجسد تواشيح مطرزة على السجاد الشرقي ... وقبل ذلك كله رسومات الإنسان البدائي على المغاور والكهوف الجبلية لغة أولية للتخاطب والتواصل وبث رسائل مرموزة ...
منذ البداية يحيّد الكاتب نفسه ويضفي على البطل اعتبارا سابغا عليه مواصفات البطولة فيجعله " رجلا متعدد المواهب ، له قدرة على تبليغ أفكاره للآخرين بطريقة مشرقة وجذابة" ويبدو الكاتب شديد الحذر دقيق الاحتراز تجاه الجميع: الأحداث ، الشخصيات والقارئ وما ينشأ عن ذلك من علاقات وتفاعلات ، ليضع القارئ أمام مسؤوليته منذ عتبة النص وهكذا يفصح المؤلف عن حياده التام حيال الأحداث . وإذا كان الكتاب يبحثون لاهثين عن مادة خام لبناء أركان الحدث الروائي ويجدون في النبش في التفاصيل الدقيقة لنسيج خيوط النص فيكلفون أنفسهم عناء ويتحملون إجهادا لا مناص لهم منه لبلورة العملية الإبداعية فإن صاحب "خبر النقيشة " قد استدعى الأحداث لتتهيأ له بيسر وسهولة إذ جعلها تسعى إليه بتلقائية تنم عن درجة عالية من الخبرة والكفاءة وهو يربط بينها وبين الشخصيات والموضوع دون مشقة (أو هكذا يبدو )ويدفع بنا إلى الولوج المباشر والانخراط السريع والالتحام بما يحدث وقد تحصن وورطنا فألقى بنا في اليمّ وانسحب ليوهمنا بالموضوعية والبراءة ،في ،ومما يكتب ولكنه يبقى في الطرف الآخر من الركح يدير الأحداث ويوجهها من خلف ستار ( فقرة البداية ) وحين يتسوّغ الكاتب لبطله منزلا كان يسكنه طبيب يوفر لنا ذلك المدخل الضامن للتدرج بنا إلى خضم الأحداث التي تنطلق من داخل حقيبة بها فيها ملف أصفر يحوي أوراقا مجهولة المصدر يعثر عليها الراوي في صندوق سيارته الخلفي يكتشف فيما بعد أنْ لا علاقة له بها ، فتوحي البداية بنفس يحيلك على الروايات البوليسية ، فالحقيبة توحي بالأسرار وتغري بحب الاطلاع ما يخلق لدى القارئ أسباب الرغبة ، غير أن الراوية يحيد نفسه منذ المنطلق ، ويضعك مباشرة في تيار الأحداث بسرعة لتجد نفسك في خضم تعقدها تجوس مع شخوصها خلال مغامراتهم فلا تملك إلا أن تلتصق بهم وتتعقب في لهفة وشوق كل ما يحدث لكل واحد منهم فاعلا أومنفعلا...
إن الطريقة التي تسربت بها تلك الحقيبة إلى حوزة البطل طريقة مشبوهة تثير الكثير من الشكوك التي تتسلل إلى مسرح الأحداث وتبقى مسيطرة عليها إلى آخر ردح فيها
الحقيبة تحتوي على ملف فيه أوراق تضعك مباشرة أمام لغز كبير يواجهك منذ الوهلة الأولى ... لقد اتسم هذا الملف بالتداخل والغموض ليكون عنصر الإثارة مبنيا على ثنائية الوهم والواقع تنعقد فيه الأحداث على خط وسط بين الحقيقة والخيال ... إن أحمد عنبة هذا شخصية غرائبية تنطوي على أسرار وألغاز وأحاج بين اللوثة الفكرية والإشراق الروحي ولكنه مثقف من طراز عال بل وفيلسوف أيضا وهو ما يذكرنا بمصطفى سعيد بطل رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال ) للطيب صالح شخصية جمعت كثيرا من المتناقضات ما جعلها محل استقطاب الناس والطلبة رجل مصاب بالصرعة النفسية وله عالمه المليء بالأسرار والغوا مض والإنسان بطبعه ميال إلى ألأساطير والخرافات ...
يقول في (ص 14) : انظروا ... هاهو الزورق يتقدم ...انظروا ...انظروا ... نظرنا إلى البحر فإذا هو كالعادة ساكن هادئ به مويجات صغيرة تتكسر عليها أشعة القمر وتتوجها أحيانا فقاقيع بيضاء ولا شيء غير ذلك ، ولكنه واصل قائلا " ألم تروها ؟... تأملوا جيدا . إنها علياء ومها هدى ... هيا معي نستقبلها " ها هنا الحلقة المفقودة في حياة أحمد عنبة . فمن هي علياء ؟ وما علاقته بها ؟ ومن هي هدى وما علاقتها بعلياء ؟