موقع سالم دمدوم للقصّة والرّواية والنّقد - المشروع السردي في رواية خبر النّقيشة
   
  موقع سالم دمدوم للقصّة والرّواية
  كلمة التّرحيب
  المجموعات القصصيّة
  الروايات
  الخواطر
  الاتصال
  المقالات
  قرّاء وآراء
  => من ضد من؟ الوجع
  => المشروع السردي في رواية خبر النّقيشة
  => قراءات حول رواية خبر النقيشة
  => خربشات على خبر النقيشة
  المنتدى
  العدّاد
  مواقع ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة 2009@ بإشراف محمّد الهلالي
المشروع السردي في رواية   : (خبر النقيشة)
أدواته ودلالاته
للأستاذ : عمر بن طاهر
توطئة:
         أ‌-        السرد إكسير الحياة ذلك أنك إذا ما سردت حكاية أو قصة فإنما أنت تعيش وتعطي لوجودك معنى ، ولحياتك تبريرا . والسرد أيضا هو فعل خلق وإنشاء لعالم آخر خيالي ، وإن أوهمك بالواقع والحقيقة عالم قد من اللغة والكلام الفني الذي يرتقي بروائية الرواية في درجات الجمال والإبداع ، ومن خلاله يروم الكاتب بلوغ مقاصد جليلة ومرامي نبيلة : تطهير النفس من أدران الواقع البائس وعطفها على منظومة من القيم الجليلة تواضع الناس على تمجيدها وتمجيد من وهب حياته من أجلها لعل  أسناها درجة وأرفعها مقاما : الحب ، والحق ، والعدل ، والجمال ، والحرية ! ألم تطهر شهرزاد قلب شهريار بفعل "جرعات القص العجيب " وتجعله إنسانا سويا عاقلا محبا للحق والعدل والجمال عطوفا على الإنسان بعدما كان كائنا متوحشا عدوانيا يتلذذ بالقتل وسفك دماء عرائس الوجود ؟ألم تهدهد الجدات في سالف الأزمان أحفادهن وتلقنهم قيما أصيلة من خلال سرد الخرافات والأساطير التي تشكل المخيال الجمعي للمجتمع ؟! أو ليس أصل الوجود الإنساني بداية ونهاية خلقا وبعثا قام على الحكاية والقصة : قصة خلق آدم ، وقصة البعث والنشر نهاية للمصير الإنساني المحتوم . تلك هي الحياة البشرية تتداعى من قصة الخلق إلى خلق القصة ومن قصة الحياة إلى حياة القصة . أجل تلك هي حكايتنا اليوم فيها السند والمتن ، وفيها المبتدأ والخبر ، وفيها كذلك الإقامة والسفر والأمن والخطر ، بل فيها أيضا النقش على صماء الحجارة بملساء العبارة ، فها هي رواية { خبر النقيشة} تثيرك بعنوانها وتستفزك بمبناها ومعناها فتجعلك معلقا في مقام الأسئلة تنثال عليك مواكبها وترحل بك مراكبها الزلوق إلى عوالم قصية وأزمان سحيقة وخوارق من الأحداث عجيبة ، فإذا أنت في شبهة من أمرك : هل أنت في عالم الواقع أم تجنح في عالم الخيال ؟ هل أنت تفعل وتنفعل في كون يلفه المعقول أم اللامعقول ؟ تلك هي حقيقة { خبر النقيشة } رواية فذة ترمي بك في متاهات من الأزمنة والأمكنة وتعصف بذهنك ووجدانك أسئلة غامضة تزج بك في متاهات من الحكايات ، وأدغال من الدلالات لعل أول تلك الأدغال العنوان : فقد ورد عنوانها خبر النقيشة ، مركبا بالإضافة : المضاف هو خبر = وخبر بالشيء أو أخبر بمعنى أنبأ وأعلم به ، والخبر هو ما ينقل ويُتحدث عنه ويُعلم به ، والإخباري هو من يدوّن الأخبار ويسردها فضلا عن ذلك فإن الخبر ضرب من ضروب القول مأثور وأثير في ثقافتنا العربية الإسلامية يورده ويسرده الإخباريّ مشافهة أو كتابة وهو شهيّ لا سيما إذا مزج بخطرات العقل ونفحات النفس . فإذا ما تناهت لفظة خبر إلى سمعك جعلتك في حالة من التهيّب والتهيؤ لأمر مهم تود لو يخرجك من الجهل إلى المعرفة أو من النسيان إلى التذكر ومن ضيق الواقع وقسوته إلى رحابة الفن وطلاوته .
أما المضاف إليه فهو{ النقيشة } ونقش الشيء أي لونه وحسنه وكأنه نفى عنه عيوبه ونقش فص الخاتم بمعنى حفره ونقش الرحى أي نقرها ، وناقشت مبدع النص أي حاورته وجادلته ومنها النقّاش والنقاشة أي حرفة النقش والنقيش هو الطعام المتفرق في الإناء والنقيش هو أيضا النضير والمثيل فيقال : شيء ليس له نقيش أي ليس له نظير فهل يحق لنا أن نعتبر رواية { خبر النقيشة } نصّا لا نظير له؟ نصا ناجما عن غير منوال ومتولدا من غير مثال ؟ ألا يحتاج هذا الحكم إلى خبير متمرس بالسردية طب بنواميسها وأصولها الجمالية قادر على الغوص في لججها العميقة واستخراج لؤلؤها المكنون ، ودرها المدفون ؟
 إننا لو أمعنا النظر في هذا النصّ وقلبناه على وجوه من التمحيص والدرس مختلفة لظفرنا بنقيشتين : نقيشة نقرها نقّاش على صمّاء الحجارة فقهرت الدهر وقامت فعل الزمن لتبقي جلية صقيلة تزداد نفاسة وقيمة كلما تقادم الدهر . ونقيشة من سحر العبارة أحكمت نسجها وترصيفها يد كاتب فنّان ، إنسان آمن بفعل الكتابة ولو كانت على التخوم لملء سويِّ الكيان وملء الذات الفردية والجماعية ، ولعل الجامع بين النقيشتين أن كلتيهما نسجتا من الكلام المصفّى كلام محلى بالفن مطهر بالجمال يرتقي في الروائية درجات فيأخذ النفس ولو كانت كليمة مغمومة إلى عوالم من السحر تنأى عن شظف الحياة اليومية وتنعتق من أسر العقل ومنطق العلاقات بين الموجودات وبين الأسماء والأشياء فالنقيشة الأولى نص شعريّ مدفون في متاهات التاريخ معتق مثقل بالرموز والإيحاءات طاقاته الشعرية كثيفة ثخينة فهو نقيشة ملحمية تتغنى بأمجاد الوطن وبطولة رجالاته من الجنود والرجال والنساء والأطفال الذين حاربوا المعتدين وقاوموا الطغاة ولو برموش أعينهم فخلقوا بفدائهم وتضحياتهم كونا أجمل واستحالت فيه الذلة عزة والهوان مجدا والجدب والقحل خصوبة ونماء { ص 42و43 } فبقيت نقيشتهم خالدة وشما في جسد الذاكرة الجماعية تطاول الزمن حتى لكأن الدهر استحال منشدا لهم أنشودة الحب والجمال والحق والحرية والفعل الصادر عن الحرية لا يكون إلا ضربا من الخلق والإبداع .
 أما النقيشة الثانية فهي إلى الخطاب السردي تنتسب سوّاها منشئها وشيد معمارها الفني على غير منوال معروف . إنها نص مخصوص عصي على الضبط والمحاصرة في نوع سردي معلوم فهل هو إلى الرواية ينتمي أم إلى الخواطر والتأملات ينتسب ؟ أهو مجرد مذكرات سار فيها الكاتب وجرى على غير هدى وعلى غير برنامج فني محكم ؟ أم هو ضرب من السيرة الذاتية اتخذ فيها الكاتب من الأحداث والشخصيات أقنعة يتلبس بها حينا وأحيانا يتخذ منها حجبا يقبع تحتها ؟
المتن الحكائي  :
يقو م المتن الحكائي في هذه الرواية على وحدات سردية أساسية تصور في مجملها معاناة رجل كان على حض وافر من العلم والمعرفة هو الدكتور مسعود وكنيته {أحمد عنبه } عندما خاض تجربة الجنون ، رجل ميسور الحال يبلغ من العمر أربعين سنة متخصص في علم الاستشعار عن بعد وفي الدراسات التخاطرية آمن بقدرة العلم على حل طلاسم الكون إيمانا مفرطا في عصر أمطرتنا فيه السماء بقنوات فضائية وبألوان من الثقافات والحضارات لا حد لها ، عصر سيطرت عليه الأزرار وتحكمت فيه الصورة والعوالم الافتراضية ، لكنه سقط في مدارات من الرعب والاغتراب النفسي والوجودي وتعرض لحالات غريبة من القلق والحيرة بعد موت زوجته الدكتورة علياء أحمد في حادث سقوط طائرة غامض في المحيط الهادي ، فوجد نفسه وحيدا في هذا الوجود مهمشا مهشما مما حدا به إلى خوض تجارب فردية في المعرفة بحثا عن أسرار الوجود وتوقا إلى التحرر من روابط الحياة وروابط العقل والحس والمادة لكنه أدرك أنه فريسة لعبث الأقدار واكتشف أنه مجرد بيدق على رقعة شطرنج الوجود ،  وأنه قد أخنى عليه الدهر كما أخنى على لبد !  لقد هم أن يصنع الوقائع فإذا هو صنيعة لتلك الوقائع ، أراد أن يستشعر عالم الآخرين فإذا الآخرون والأخريات يستشعرونه عن بعد وعن قرب ويعلمون عنه السر والعلن ويحاول عبثا أن يعقلن الظواهر من حوله فإذا كل ما يحدث له وما يجري من حوله غريب عجيب ، فيتوغل في متاهات اللامعقول ويرتمي في أحلام اليقظة ويطبق عليه الوجود / الكابوس بأسئلته الحارقة فإذا هو ألغاز وأحاج وطلاسم تلقي به إلى هاوية الجنون والعتمة . وبعد تجارب متقلبة عاطفية واجتماعية ووجودية يصحو في الأخير من غيبته ويستيقظ من أذغاث أحلامه فلا يسمع إلا أنينا وأوجاعا = أوجاع اللحظة التاريخية الراهنة = وفد انفض خلانه من حوله فلا يجد سوى النقيشة والقوس والرمح والسيف في تلك الخرائب الأثرية وحولها حارس شبه نائم على قارعة التاريخ وقد وضع رأسه بين يديه متكئا على طاولة فوقها قوارير مختلفة الأنواع. { ص 143 و 144 } وقد انتظمت هذه الأصوات / التجارب في الوحدات السردية التالية :
 ¥ عثور الراوي على حقيبة سوداء خبأها ( لص شريف ) في صندوق السيارة الخلفي
¥ العثور على ملف أصفر مخبأ في الحقيبة السوداء
¥ شروع الراوي قي تصفح أوراق الملف ورقة ورقة وقراءتها لفك ألغازها واستجلاء أسرارها .
¥ اكتشاف أطوار قصة جنون الدكتور مسعود وتبن أهم أسبابها وقد وردت في شكل { ومضات استرجاعية }  .
¥ زيارة خرائب في الجبل رفقة فريق بحث علمي( لإقامة مشروع ) .
¥ العثور على أشياء تراثية : نقيشة مدفونة في تلك الخرائب مخبأة في دهاليز وأنفاق أشبه بالمدينة الأثرية { سيف صقيل ، تمثال ، ترس ، ونقيشة لم يقو فريق البحث عن فك شفرتها } .
¥ خوض تجربة الجنون والغيبة عن الواقع ، وهي أشبه بالرحلات في أدغال الوجود ، تشظى فيها البطل فيها بين المعقول واللامعقول وبين نداء الحس ونداء الروح ، وبين الوعي واللاوعي ، وبين الآني والآتي فعاش أطوارا من الرعب غريبة أفضت به إلى حالات من التلاشي في متاهات من الأزمنة والأحداث الغريبة ، وكلما توغل في تجاربه تلك ازداد ضيقا بالواقع واختناقا بأعباء وجوده النفسي والحسي والاجتماعي حتى استحال دمية تعبث به الأقدار كما يلهو الصبيان بلعبهم {من الدبابات والبنادق ... } فإذا الشخصيات التي يتوهم أنها في خدمته تقدم له يد العون تتلاعب به وتعبث كما تشاء نكاية به وهزءا بمقامه في الدرك الأسفل من الوجود رغم رفعة مستواه العلمي !
¥ يقظة البطل وصحوته على أوجاع اللحظة الآنية ليجد نفسه وحيدا في تلك الخرائب الأثرية وقد فر أعضاء الفريق العلمي من حوله وهجرته النسوة اللا واتي كن( يساعدنه ) بمكائدهن فلا يسمع إلا الأوجاع والأنين ولا يرى أمامه سوى تلك الأشياء التراثية التي بقيت على مر الدهور على حالها وأمامها ذلك الحارس البائس شبه النائم وقد تعطل كل ما حوله عن الحركة والفعل ! فهل نحن مجرد كائنات تراثية مكانها متحف التاريخ وخرائب الماضي السحيق ؟ أم نحن أمة عريقة لها تراث ؟! .
 ملاحظات حول البناء والأدوات الفنية:
      لقد وردت الوحدات السردية السالفة الذكر في شكل طبقات من الحكايات الأصلية والحكايات المضمنة التي تتناسل فيها الفروع عن الأصول فيتوالد بعضها عن بعض دهاليز. من القصص مخبأة في صناديق يفضي بعضها إلى بعض أشبه بالمتاهات والأدغال وكأن القاري ليس إلا متجولا لأول مرة في غابات كثيفة السبل[1] ملتوية ، مظلمة غامضة مليئة بالأخطار والمفاجآت . وهي حكايات يحار الدارس في تصنيفها ، فمنها العجيب الخارق ومنها التاريخي الآتي والمسترجع من سحيق الأزمنة الغابرة وفيها كذلك الحكايات المستوحاة من وحي اللحظة الراهنة المعاصرة ناهيك عن المذكرات والتأملات والخواطر فضلا عن الأخبار الصحفية والأحاديث والأشعار . أما الشخصيات فهي متنوعة عديدة ومن مستويات اجتماعية مختلفة لعل أهمها فئة العلماء ، الساسة . وفئة النساء وخاصة الجواري الغانيات ومنها كذلك شخصيات غيبية مفارقة ( إبليس) ولنا أن نصنف تلك الشخصيات في ثنائيات طريفة قابلة لمزيد التحليل والتأويل قابلية تبرهن على ثراء النص وكثافة طاقاته الرمزية والإيحائية{ العمق في الإبداع هو الذي يحمل البذور الخصيبة للتأويلات العديدة }[2]
=1 ثنائية الرجل والمرأة { الدكتور مسعود /الأمير الأندلسي / طليطلة / شهرزاد/ الجواري ...}
2 ثنائية السلطان والمثقف العام { الأمير الأندلسي / الموصلي . رعاة البقر / الدكتور مسعود . السلطة الرسمية / الحلاج / قالي لو . }
3 ثنائية المقدس والمدنس { الراهب البوذي / إبليس . }
4  ثنائية الإنسان والحيوان { الدكتور مسعود / الحمير والثيران }
وتفضي هذه الثنائيات إلى ثنائيات ذهنية كبرى لعل أهمها :
ثنائية العقل والهوى ، الروح والجسد ، الجهل والمعرفة ،{ الجهل نعمة والمعرفة جريمة !} . ولعل أفضل ما يعبر عن تجربة الدكتور مسعود قول المتنبي :
    ذو العقل يشقى في النعيم بعقله          وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وقول أبي العلاْ المعري :
    واللب حرف والجهالة نعمة                والكيس الفطن الشقي الكيّس
فقد واجه الدكتور مسعود من الأسئلة الوجودية أغمضها ومن التجارب الحياتية أقساها وأعتاها في عصر تحكمت فيه الأزرار والمكننة وتأثر فيه البشر بالعالم الافتراضي أكثر من تأثرهم بالواقع المعيش فواجه بعقله التائه على حد قول المعري :
أمور يلتبسن على البرايا     كأن العقل منها في عقال
¥   ثنائية الأنا والآخر المتقدم علميا ، والمستعمر ثقافيا و سياسيا إذ تشد البطل علاقة حنين إلى اللحظة التاريخية الماضية لحظة الفعل الحضاري الذي أبدع فيه الأجداد النقيشة كما نلاحظ حالة من النفور والهروب تناوش البطل إزاء اللحظة الراهنة تمثلت في موقف الدكتور مسعود من الآخر راعي البقر الذي حاول الاستيلاء على النقيشة لكن علاقته به ظلت علاقة اضطرارية وليست اختيارية ، فهو مضطر إلى استعمال منجزات الآخر العلمية واستهلاك بضاعته ولا أدل على ذلك من صورة الهاتف النقال الذي صمم على هيئة مقززة للبطل { هيئة الجعل } باعتباره صورة تثير النفور والتقزز ولكنه مضطر إلى استعمال ذلك الهاتف العجيب . على أن هذه الشخصيات وإن تنوعت واختلفت أوصافها وعلاقاتها ووظائفها فإنها ليست غير مرايا تعكس وجوها من معانات الدكتور مسعود ، لاسيما الشخصيات النسائية ، فهن فاعلات مقتدرات بأيديهن الحل والعقد يمسكن بخيوط اللعبة كيفما يردن ، سلاحهن الجسد وإغراءاته والكلام وفتنته والعطر وشذاه السحري . بينما يتراءى الدكتور مسعود منفعلا مفعولا به عاجزا ضعيفا لا قبل له بفك الطلاسم والألغاز التي يحوكها له الزمن وهو الدكتور المتخصص في الاستشعار عن بعد يدعي امتلاك سلطة المعرفة فيرغب ويسعى جاهدا إلى البحث عن الحقيقة التي تنزل على حياته بردا وسلاما ولكنه يكتشف أنه ضعيف متقادر فيتوغل في الورطة تلو الأخرى وكلما تراكمت الأحداث وتنامت يزداد عجزا وضعفا ورعبا ، من حيث يتوهم أنه قادر على بلوغ الحقيقة والمعرفة : الرغبة في معرفة هوية صاحب الحقيبة ، الرغبة في معرفة سر موت الزوجة علياء أحمد ، الرغبة في معرفة سر مقتل الدكتور عيسى علوان الرغبة في معرفة دلالة النقيشة وفك شفرتها ، الرغبة في معرفة الأحاجي والألغاز التي حاصرته وطوقت عقله في تجربتي الحلم واليقظة .
ولعل منطق حب المعرفة هو الهاجس الذي يحرك الأحداث ويجعلها تتدافع وتتراكم وتتنامى فحب المعرفة يمثل فعلا لحمة الحكايات وسداها فهي تتداعى وتتناسل من رحم بعضها بعضا ولا يحكمها سوى التداعي وحب المعرفة ، وقد وظف الكاتب جملة من الأدوات الفنية جعلت عقد الأحداث ينتظم على ذلك النحو الذي ذكرنا . ولعل أهم تلك الأدوات :
* السارد :
نجد في الرواية ساردين : سارد يتبرأ من السرد ويوهمك بأنه مجرد ناقل أمين عثر على ذلك الملف ذات صيف واستعرض ما جاء فيه دون زيادة أو نقصان . فها هو يخاطبك " ... هذه الأحداث التي أرويها أيها السادة لا تخصني ، لا دخل لي فيها على الإطلاق ... ليس لي أي ضلع حتى في صياغتها أو ترتيب أحداثها [3] "حتى لكأن التصرف في الأحداث أو نسبتها إليه إحساس بالخيانة وشعور بالجريمة ! أما السارد الثاني فهو سارد / شخصية عايش الأحداث فانفعل وفعل وتفاعل ، ثم دونها في زمن ما في ملف ضاع فعثر عليه السارد الأول .
*النص المسرود : نجد في الرواية ضربين من النصوص يختلفان من حيث الكم والنوع والوظيفة ، النص الأول سردي روائي يستأثر بأهم فصول الرواية أما النص الثاني فهو حجاجي تفسيري يرد في شكل تعليق على محتوى ورقات الملف التي يعرضها الراوي
* الأمكنة :  جرت الأحداث المسرودة في أمكنة عديدة ومتباعدة ويمكن أن نصنفها إلى نوعين : أ = أمكنة احتضنت البطل زمن اليقظة وهي أمكنة مغلقة ضيقة عمقت في البطل الإحساس بالضيق وا اختناق والرتابة ( الغرف ، النزل ، الحمام ) وأمكنة أخرى احتضنت تجربة البطل زمن الغيبة والجنون وقد اتسمت بالاتساع والامتداد والرحابة وقد بدت له رمز الخلاص والانعتاق من بؤس الواقع وقيود العقل والمنطق ( شوارع المدن ، الصحراء الغابات ...)
* الأزمنة : لاترد الأحداث وفق زمن خطي وإنما تتقاطع فيها الأزمنة وتتداخل على نحو معقد مما يدل على تصدع كيان الدكتور مسعود بين أزمنة شتى يتداخل فيها الآني بالماضي بالآتي فقد ضاق ذرعا باللحظة التاريخية الراهنة وتاق واشتاق إلى الخلاص منها ولو عن طريق الغيبة والجنون وارتماء في أحضان الماضي حنينا إلى الزمن البكر زمن الطفولة ، زمن الفعل الحضاري الذي كان فيه الكاتب خير جليس للإنسان على خلاف اللحظة الراهنة التي زجت بالإنسان في عالم الغربة والاستلاب بسبب سيطرة الآلة والأزرار حتى لكأن الإنسان تشيأ وتخشب .! في الرواية  يهيمن زمنان أيضا زمن آني مرفوض وزمن مسترجع من تجارب الماضي السحيق.
* التناص : تشكلت "خبر النقيشة "من أمشاج شتى ، من نصوص متنوعة المشارب والأنواع سافرت إلى بعضها وهاجرت فكونت نصا جمعا تنوعت فيه الأصوات وتعددت {الخبر الأدبي ، الخبر الصحفي ، المذكرات ،الحكايات العجيبة ، الأسطورة ، الشعر، الرسالة ،مشاهد من فن الرسم والنحت } هكذا جاءت الرواية فسيفساء من النصوص.
* تقنية الحلم والاستبطان النفسي : كثيرا ما تتوقف الأحداث في الرواية وينزاح الراوي إلى ضرب من التحليل النفسي لشخصياته فتبث خواطرها وتأملاتها مما يثقل الحبكة السردية ويضعف نسيج الأحداث فنيّا . إن هذه الملاحظات حول التقنيات الفنية في الرواية ليست إلا انطباعات أولية لا ترقى إلى مستوى الدراسة الأكاديمية الدقيقة ولا تستوفي كل المقومات الفنية في الرواية . ومهما يكن من أمر فإن رواية ( خبر النقيشة للكاتب سالم دمدوم تعد محاولة جريئة ومغامرة في الكتابة السردية فهي في وقائعها تسجل رحلة الدكتور مسعود الباحث عن الحقيقة والخلاص من أدران الواقع ولو كان خلاصا فرديا وهي في أدواتها الفنية تصور رحلة الكاتب القلقة في البحث عن أدوات قصصية مناسبة لمعالجة قضايا الفن والفكر وهي بعد هذا وذاك تشي برحلة القارئ المأزوم الباحث عن المعنى في عصر اللا معنى عصر لم يعد فيه للمثقف والعالم المتخصص سوى الجنون أو مسح الأحذية على قارعة التاريخ أو بيع الأسماك كما جاء في تصدير الرواية (ص7) :
 "   لا ، لا تحدثني في السياسة فقضيتنا هي بيع الأسماك "  فقد همشت رسالة الفنان ورسالة المثقف في عصر القيم الرقمية التي دحرت القيم النوعية . والرواية في مجملها تعالج قضايا فلسفية حضارية سياسية جسدتها أزمة البطل الدكتور مسعود من خلال تجاربه وعلاقاته وأحواله . فلأزمته وجوه متعددة لعل أبرزها :
الشرخ النفسي { مكابدته لألوان من الغربة والوحدة ، فرار الشخصيات من حوله خاصة في آخر الرواية ، إحساسه بأنه في صندوق مظلم ضيق من بلور سميك وانه يجدف في بحر الوجود وحيدا ويدرك أن الوصول محال ...}
الشرخ المعرفي : وعيه الحاد بقصور آلات التجريب الحسي ومناهجه عن إخضاع عالم الروح والفن والوجدان واختزال الإنسان في معادلات رقمية ،
الشرخ السياسي : أزمة العلاقة بين رجل السياسة ورجل العلم والفن والفكر من خلال استحضار العلاقة بين الأمير والموصلي واستدعاء تجربة الحلاج وكذلك تجربة قاليلو .
الشرخ الوجودي الحضاري : من بين القضايا التي تثيرها الرواية منزلة الإنسان في عصر الثورة الرقمية فقد بات صنيعة للآلة التي صنعها وأصبح فريسة لعالم افتراضي أمطرتنا فيه الأقمار الصناعية بسيل من القنوات الفضائية جارف عارم أضحى فيه الإنسان سلبيا غريبا لا قدرة له على مواجهة التيار سوى الحنين إلى زمن العلاقات الاجتماعية الحميمة ، زمن السكون والسكينة ، لقد كان الدكتور مسعود طوال الرواية لا يحصي إلا هزائمه وانكساراته ! فهل أزمة الدكتور مسعود في وجه من وجوهها أزمة فرد أم أزمة طبقة اجتماعية بأسرها ؟ أم هي أزمة جيل كامل يعيش مأزوما مهزوما حضاريا وعلميا في عصر رقمي لم يشارك في صياغته إنما يعيش غريبا عنه فلم يعد أمامه من سبيل سوى الجنون أو التسكع في أزقة التاريخ الملتوية فأضاع أمجاده الحضارية وفقد المعنى والفن والحب والجمال ... وفي خاتمة المطاف نشير إلى أن هذه الرواية تعد فعلا لبنة أخرى تضاف إلى مؤلفات الكاتب سالم دمدوم وهي محاولة جريئة تجاسر فيها صاحبها على اجتراح أدوات فنية جديدة لمعالجة قضايا الإنسان العربي بكل جرأة وحسبه شرفا هذه المحاولة وإن اعترتها بعض الهنات بادية في :
·       ضعف الحبكة السردية : فقد وردت الأحداث مفككة الأوصال في بعض الفصول مما أضعف عنصر التشويق
·       ضعف الصراع الدرامي في الرواية : في الرواية مفاجآت لا تتوالد عن تنامي الفعل السردي وتراكمه حتى أن السارد كثيرا ما يغرق في التأملات والخواطر فيصبح الخطاب مباشرا يضعف من روائية الرواية .
·       إثقال الرواية بالتعاليق والشروح والتفاسير حتى لكأن الراوي يمارس نوعا من الوصاية على القارئ .
·       تمركز الرواية حول مشكلات الذات الفردية ( المشكلات النفسية الوجودية ) دون ملامسة مشكلات الجماعة في اللحظة الراهنة بعمق فكري وبروح فنية آسرة...
لقد صادفت هذه الرواية هوى في نفسي حفزني إلى كتابة هذه المقاربة النقدية على عجل دون التزام صارم مني بأسس النقد الروائي ومناهجه العلمية والأكاديمية فليعذرني القارئ الكريم . فما النقد سوى إنشاء وإبداع ، ولكن الكلام على الكلام صعب . والله من وراء القصد                    
عمر بن طاهر
أستاذ أول
( بنقردان )


[1]{ امبرتو إيكو = ست نزهات في عالم السرد = }
[2]كمال عمران = مجلة الحياة الثقافية مارس 2009
[3] خبر النقيشة ص 9
زار الصّفحة اليوم (زائر) 2 visiteurs
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement