المتّهمون/ هدية عيد الميلاد
الفصل الأول :
أنت مسترخ على كرسيّ طويل في شرفة صغيرة يغازلها الموج، أثناء فسحة من الزمن جادت بها أمسية صيف جميلة. وأمامك كأس من الشاي الأخضر المنعنع بالبندق، تنتصب غير بعيد منك شجرة ليمون، تتوهج أوراقها اخضرارا تزينها بعض ثمار بدأت تصفرّ. تذكــّرك بأماكن وأسماء وأحباب وأيام حلوة لم يبق منها غير أوجاع، لم يشف القلب منها بعد ، وتتساءل في ذهـول .
أين هم أولئك الأعزاء الذين كانوا شموعا مضيئة في تلك الذكريات. فيهاجمك لثوانٍ شيء من الحسرة وينتابك شرود يشبه الضياع مدة من الزمن يأخذك بعيدا عن الزمان وعن المكان ثم تحاول النسيان وتعود إلى الشاي، تترشّفه حالما مستمتعا بمفاتن طبيعة ضحوك، يوفر لها البحر فرصة الحفاظ على شبابها، وتجديد مفاتنها باستمرار. وتنشأ في نفسك رغبة الخروج في إجازة طويلة ترتاح فيها من أعباء العمل. تريد بها أن تذيب جليد المألوف وتقضي على الرتابة تريد الإنفلات من هذه الآلة الخرافية التي تهرس أعمارنا بلا رحمة، حتى يعود إلى النفس توهجها المرهف، واستجابتها السريعة لكل جميل وجديد. تعود إليها شهقة البكارة وعذرية الانبهار، أمام الأشياء الرائعة. حيث كلّ شيء يبدو متألـّقا جذابا. ويصبح الذهن كما كان حرا وثّابا جسورا، غير هيّاب، شديد الفاعلية والنفاذ إلى صميم أعقد المشاكل. ومن مذياع بعيد يتسلل إليك صوت عبد الوهاب، موشًّى بموسيقى النهر الخالد، يفتح كوة في جدار النفس، فإذا ذكريات العمر كلها تتوهج في حضور غريب. ويرتجف شيء ما في وجدانك مثل ارتجاف الأوراق الخضراء في ندى الربيع. لا تدري هل هو رجفة يقظة أم غفوة ؟ انتفاضة نشوة أم ارتعاش حسرة وأسى؟ ثم تحزم حقائبك وتركب البحر عمدا هذه المرة على غير مألوف عادتك... لماذا البحر ؟ رغبة غامضة لم تجد لها حتى الساعة تعليلا .
تلك الأحداث تذكرها الآن، وأنت في هذه الغرفة البائسة تتساءل في ألم وحيرة:
كيف وصلت أنا إلى هذا المكان؟ ولماذا منعت من السفر في هذه اللحظة الأشدّ حرجا ومأساوية في حياتي.لحظة الفجيعة هذه التي ترقد فيها زوجتي مهشمة الرأس، تنزف جراحها في ذلك البلد البعيد كما ينزف قلبي مرارة وقهرا.
ويفاجئك أحدهم بالسؤال:
ما علاقتك بريم فواز و عبدو؟
ولا علاقة في الواقع. إن هو إلا لقاء عفويّ صنعته صدفة لا غير. لقد قلت لهم ذلك صادقا لكن لا يبدو أنهم صدقوك. ثمة شكّ مكتوم ولكنه جلي في تصرفاتهم وردود أفعالهم.
- أنت ليلة العاصفة حين كنت على ظهر الباخرة "نيوزلندة" كنت مع عبدو، وبقيتما إلى ساعة متأخرة من الليل تسمران. ماذا حكى لك؟ عن أي شيء تحدثتما؟
هكذا سؤلت
وتتوسّل إليهم في شبه ضراعة:
لم يكن لدينا موضوع محدّد - أرجوكم صدقوني- تحدثنا عن العاصفة، والبحر، وموت الأسماك، والنساء وعلب الليل. ولكن الأكيد أنه لم يحدثني بشيء هام يمكن أن يكون موضوعا لسؤالكم.
أ هذا كل شيء؟
وتستنجد بالذاكرة تحاول كشطها وعصرها على أمل أن تتذكر شيئا ولكن لا شيء كما هو الواقع فتصمت.
تتلقى منهم نظرة تنم عن الغيظ ثم يواجهك سؤال آخر.
هل حكى لك عبدو قصة وجوده في لبنان؟
مازال الأمر ينذر بسوء أكيد. وأنت لا تعرف قطعا إن كان عبدو ارتاد يوما تلك البلاد وتجيب.
لا.لم يحك لي عن ذلك شيئا، ولم يذكر لي يوما انه ذهب إلى هناك.
غمغم في ما يشبه الملل ثم سأل:
ثبت لدينا أنه حكى لك قصة حياته وخروجه من بلده هذا ثابت لدينا.
وبسرعة وعفوية وصدق تجيب:
صحيح. حكى لي ذلك ذات ليلة. ولكنه لم يتم الحكاية وقع استدعاؤه فجأة بالهاتف فغادرني ومضى.
أين توقف الحكي؟ في أي نقطة؟ في أي مكان؟
تحاول التذكر والتذكر صعب، خاصة عندما يتعلق الأمر بحديث عابر لم تتوقع أن تكون له فائدة أو قيمة. إنما هو من باب إضاعة الوقت ليس إلا. ولـكن هذا لا يجـدي .لا بد من إجابة وتنجدك الذاكرة هذه المرة فتجيب:
- توقف الحديث بيني وبينه - على ما أذكر- وهو مختبئ في جوف الصحراء صحبة دليله الذي اجتاز به الحدود.
- أي حدود؟
- الحدود التي يريد اجتيازها.
- نظر إلى مرافقيه نظرة خاصة، و حدجك بنظرة متوعّدة، ثم عمد إلى تقليب أوراق بين يديه، وبعد برهة عاد يسأل من جديد:
- وريما أو ريم أين تعرفت عليها؟ ومتى كان ذلك أوّل مـرّة ؟
- ذكرت لكم سابقا ظروف اتصالي بها ومعرفتي لها.
- ألم تحك لك قصة حياتها، وهي تقول إنك صديق لها تحترمه وتثق فيه؟
- لا. أبدا. لست صديقا لها، ولا علم لي بخصوصيات حياتها. ربما يكون عبدو أدرى بهذه الأمور. فهو عشيقها وكان يفكر في الاقتران بها. أما أنا فأؤكد لكم أن علاقتي بها سطحية جدا كعلاقتها ببقية المسافرين.
- يقترن بها؟!
قال ذلك بتعجب واضح ثم سأل:
- تقول إن علاقتك بها سطحية جدا، وأنت الوحيد الذي تركت عندك بعض أشيائها للذكرى. ولكن لا بأس سنعرف كلّ شيءٍ حتما، آجلا أو عاجلا، ولا تعوزنا الوسائل لذلك. أما الآن فإننا نريد أن تكون" متعاونا" معنا وتدلنا على الأشياء التي تركتها عندك. نحن على ثقة تامة من أنها جاءتك بشيء ما يوم كنت تستعد لمغادرة الباخرة.
تقرر التشبث بالجزء الأخير من السؤال قصدا وتجيب:
- جاءتني بديوان شعر كانت استعارته مني.
- أهذا كل شيء ؟
- هذا كل شيء.
- هل تصفحت هذا الكتاب بعد أن أعادته لك ريما؟
- لا... ولماذا أتصفحه وقد قرأته مرات عديدة حتى أصبحت أكاد أحفظ جل قصائده ؟
- يحدث أحيانا حين تعيد لنا امرأة مثل ريما، كتابا كانت قد استعارته منا، أن نحرص على تصفحه ورقة ورقة، لعلّ بينها رسالة صغيرة، إشارة بقلم الرصاص، سطرا صغيرا تحت كلمات أو جمل، ورقة ورد ذابلة، خصلة شعر معطّرة، نقطة صغيرة من عطر خاص فوق جملة أو أشياء أخرى؟
حيّرك سؤاله المتخابثُ المتآمرُ وقلت في نفسك: ها هو يريد أن يرتاد معي مناطق يظلّلها الشعر، وتُدفئُها المشاعر الحميمة لغاية في نفسه ثم تجيب:
- هذه رومانسية لم يعد لها مكان في هذا الزمان.
ولكن السائل نظر إليك راسما بسمة مفتعلة ثم قال:
ركَّزْ جيدا وسوف نعود إليك بعد حين. ثم خرج مع صاحبيه وتركوك في الحيرة والذهول.
حين تجد نفسك مطلوبا في أشد القضايا خطورة، جعلتك الصدفة وحدها قريبا منها، حين تصير متهما رغما عنك، وتصبح في علاقة تصادمية مع محققين لا يهمهم في الغالب غير إثبات جريمتك، ولا دليل لهم حتى الساعة غير سماتك الخاصة، ولون شعرك وبشرتك، وأنت واثق من أنك بعيد كل البعد عن التهمة بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، لا بد أن تحس بكثير من المرارة والخوف. يا لها من سخرية أقدار أن تتوارى الأشياء الجميلة التي فكرت فيها وحلمت بها فجأة وعلى غير انتظار وتصبح مهددا بفقدان الحرية بعد ضياع الحلم. يتوارى الأمل الجميل الذي كنت منذ أيام فقط فرحا بتحقيقه حتى الانتشاء فخورا به تغمرك السعادة ويهزك الزهو والخيلاء وأنت مع "ليما" ترسمان ملامح مستقبل واعد بالمجد والحبّ.
هل نحن في زمن أصبح فيه الإنسان متهما حتى تثبت براءته؟ انقلاب حاد في الموازين، نقلة نوعية ولا شك. ولكــن يا الهي، كم هي موغلة في التردي ؟ كم بها من المرارة...كم يلزمنا من الحجج والبراهين، كم ينبغي أن نجند من المحامين والمستشارين والقضاة حتى نثبت براءتنا؟...
رحت أعيد في ذهني بناء الأحداث التي أدت بي إلى هذا الوضع البائس الخطير. كيف وضعتني الصدفة في طريقهما؟ كيف اصطادتني هي أو هما حتى أصبحت متورطا في هذه المشاكل التي لا أعرف كيف تنتهي .
أتذكر جيدا أن عبدو هو الذي قدمها إليّ بطريقة مغرية وبأسلوب محرِّض عجيب. يختلط فيه العشق بالشعر والحبّ بالإعجاب. يرسم لها بطريقة غريبة، صورة رائعة، جعلتني اهتم بها وأودّ التعرف عليها.
قال لي :
إن اسمها "ريما" امرأة غامضة لا يعرف أحد عنها شيئا شقراء ممشوقة القوام، أقرب إلى النحول، في العقد الثالث من عمرها، لم تكن جميلة جدا. غير أن شيئا ما في فمها: في شفتها العليا تحديدا، يشعّ جاذبية ويقطر إغراء وسحرا، يجعلك مشدودا إليها فيتشرّبها فؤادك من النظرة الأولى، تحسّ سريعا أنك ألفْتها، وأنها شيء مرغوب فيه ومشتهى، يمنحك إحساسا بالسعادة والفرح، بحضورها ترى الحياة أجمل.
هكذا كان يحدثني عنها في نبرة تحس فيها الصدق والانجذاب معا، حتى استطاع أن يثير في نفسي نوعا من الاهتمام بها وإن أخفيت ذلك عنه.
"... كانت جذابة جدا. من ذلك النوع من النساء الذي يثيرك بشيء من الكبرياء والاعتداد بالنفس، إلى جانب كثير من اللطف والرقة في معاملة الآخرين. فيكون قريبا منك، وبعيدا عنك في نفس الوقت. يترك بينك وبيـنه ، مسـافـة قابـلة لأن تكـون أبـوابـا أو أسوارا...".
قال ذلك ثم واصل في ما يشبه قصيدة غزل:
عيناها الخضراوان مرجان واسعان غسلتهما أمطار خريفيّة. ألق سحرهما الأخضر، شديد الإغراء والغموض. ثمة عيون مكابرة، لا تمنحك أسرارها من الوهلة الأولى. ترميك رغما عنك على ضفاف الحيرة والشك وتأسر لبّك مع ذلك، وهكذا كانت عيناها، تتسمان بتلك الأعماق الغامضة الملتبسة حتى لا تدري هل هما دعوة إلى الإبحار، أم قرار بإلقاء المرساة، والتوقف عن الرحيل؟ تزيدهما مسحة غريبة من حزن إغراءً وجاذبية.
شعرها الأصفر الكثيف، يتهدّل على كتفيها ويرحل... شديد التوهج في اصفراره، شديد النعومة كريش حجلة مبلل بأنداء الفجر...على صدرها غفت حمامتان، تحلمان وترتعشان... زهرتا فرح على ألق الصدر مزروعتان تختلجان...
تطلّع إليّ مليا. وقبل أن أهم بإبداء رأيي أو التعليق على هذه الغزلية الرائعة، واصل مسترسلا:
عندما تخاطبكَ، عندما تسمع صوتها، تدرك لأول مرة ما لبعض الأصوات الأنثوية من قوة إغراء وتحريض. في لهجتها لُثْغَة شرقية تحيل تاء التأنيث همزة تنتهي كشهقة إعجاب، كتوجّع رَصْد... تود معها لو منحتك فرصة الاستماع إليها أطول وقت ممكن. أما حين تضحك، فإن ذلك الغموض الجذّاب في شفتها العليا يستحيل آسرا محرضا. غير أنها نادرا ما تضحك. ترتدي ثوبا بسيطا أسود، توشّيه فراشات صغيرة وأزهار بيضاء. يغدو فيه قوامها الأشقر شراعا في بحيرة هادئة توشّيها النوارس...
هكذا كان "عبدو" يحدثني عن ريما في وجد حميم وهو أحد العاملين على ظهر هذه السفينة، كنت قد أقمت معه علاقة ودٍّ لما في طبعه من أمانة ودماثة خلق. و تبادلنا بعض الهدايا. وحين أهديته قارورة خمر جيد كانت في حقيبتي مع أخرى أحملها هدية إلى صديق أعرف شغفه الكبير بهذا النوع من النبيذ، فرح بهذه الهدية كثيرا وأصبح صديقا لي، يلازمني باستمرار في أوقات فراغه. ويتدخل أحيانا ليجعل ما يقدم لي من خدمات متميزا قليلا عن الآخرين. وأحيانا يبقى معي إلى ساعة متأخرة من الليل يمدني بتفاصيل غريبة عن الحياة في البحر:
قال لي يوما هل زرت مرة سفينة الملذات ؟
قلت له : أي سفينة و أي ملذات... أنا لم أسمع بهذه السفينة ... ما قصتها ؟ أين توجد ؟ ومن هم مالكوها؟
قال: هي عبارة عن يخت أنيق عملاق أعدّته إحدى الشركات المغامرة والتي جعلت الربح همها الوحيد يرسو بعيدا في المياه الدولية وجعلت على ظهره مجموعة من الفتيات الجميلات من جميع أنحاء العالم، يقصده بعض الأثرياء من طلاب المتعة ومدمني القمار. حيث يجدون هناك بغيتهم فيمارسون هواياتهم في كنف الستر، بعيدا عن أعين المتطفلين وقد أعدت لهم الشركة صاحبة المشروع، زوارق خاصة مهمتها نقلهم ذهابا وإيابا وعليهم فقط أن يدفعوا بسخاء. وقد علمت أن لها شبكة واسعة من عملاء في كثير من البلدان، وحتى على ظهر سفينتنا هذه، تنحصر مهمة أفرادها في اصطياد الفتيات الجميلات، من شرق أوروبا، ودول البلقان، والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. وأخذهن للعمل على ظهر ذلك اليخت مقابل أجر باهظ يتسلمونه هم ولا تحصل الفتيات منه إلا على النزر القليل. مستغلين ظروفهن الصعبة، يمارسون نشاطهم تحت غطاء شركة خدمات، حيث يختارون حريفاتهم فيتعاقدون معهن على أجر شهري ثابت ولكنه زهيد، ثم يبيعون خدماتهن إلى أصحاب ذلك اليخت بأثمان خيالية.
قلت له: لكن هذا عمل يفتقر إلى القيم ولا يتناسب مع كرامة الإنسان، وهو نوع من العبودية إن لم يكن أسوأها جميعا.
قال لي: القيم، كرامة الإنسان، قدسية العمل، أشياء لا يهتمّ بها هذا النوع من الناس. يهمهم فقط أن يكسبوا مالا في ميكيافيلية عجيبة. كل الطرق والأساليب مباحة عندهم. والويل لمن ترميه الظروف بين أيديهم. ثم راح يقصّ علي وقائع غريبة أخرى.
ازددت إعجابا بعبدو وارتحت إليه كثيرا، فهو علاوة على المعلومات الكثيرة التي كان يزودني بها، صاحب مزاج شهواني طروب، متقد العاطفة، لا يخلو من ثقافة وتجربة. كان كثير القراءة على ما يبدو، يحدثك في شتى المواضيع ويكون حديثه في الغالب ممتعا مفيدا. أعجبني فيه ذكاؤه ولباقته اللّذان يجعلانه يعرف متى يتوقف أحيانا عن الكلام ويتركك لهمومك. غير أنه في بعض الأحيان يعتريه نوع من الشرود فيتوقف عن الحديث لبعض لحظات، يشيح بوجهه ويتطلع ببصره إلى بعيد دون أن ينبس بشفة، حتى إذا ما تطلعت إليه صافحتك من عينيه نظرة شاردة، تفهم منها الحزن والحيرة، فإذا ما انجلت تلك الحالة عنه يهزّ رأسه ويلتفت كمن أفاق من غيبوبة، ثم يستأنف الحديث. وذلك ما جعلني أرجح بيني وبين نفسي أن الرجل يعاني مشاكل وهموما كثيرة، يحاول إخفاءها عن الآخرين.
كان في الخامسة والثلاثين من العمر، تلك المرحلة الخصبة في حياة البشر والتي تكون تجاربنا فيها قد قاربت النضج ومازالت أمامنا فسحة كافية لتحقيق الطموحات.
له قدرة على قصّ الأحداث بأسلوب ممتع يجعلك في شوق ولهفة إلى سماع هذه القصص والتي تبدو مقنعة عموما لا أدري ما إذا كان ذلك راجعا إلى براعته في السرد وسعة خياله أم إلى واقعية الأحداث نفسها وإلى سعة تجاربه. سألته يوما كيف وصل إلى هذا المكان وعن أي طريق فقال:
لذلك يا سيّدي قصة طويلة ومعقدة ولكني سأحاول إيجازها لك: كنا ثلاثة شبّان حدثت لنا ظروف بالغة التعقيد لا فائدة في ذكرها الآن جعلتنا نفكر في اجتياز الحدود خفية...
ذات مساء قبل الغروب بقليل ألقت بنا سيارة (تويوتا) على أبواب الصحراء وانطلقت راجعة مذعورة بعد أن تركتنا هناك... لم يكن معنا غير "مصباح" دليلنا الذي سيجتاز بنا الحدود وقليل من زاد وماء ... وكالثعالب المطاردة انسللنا بين كثبان الرمال التي تكللها أحيانا نباتات من السبط والحلفاء والعرفج آخذين في سير سريع متواصل. يعصف بقلوبنا الخوف والشك والحيرة لغموض المستقبل أمامنا... أمضينا وقتا طويلا وبذلنا مجهودا ضخما، وأصبحنا نتصبب عرقا... وماهي إلا سويعات حتى اقتربت الشمس من المغيب، واكتسى الشفق الغربي حمرة قرمزية حينا من الزمن، ثم غربت الشمس وأصبحت الصحراء شاسعة موحشة، يلفها الصمت وتسكنها الأشباح، يهابها الإنسان وتثير في النفس إحساسا حادا بالخوف والضياع.
كنا نمشي بعضنا بجانب بعض في صمت لا نتبادل الأحاديث إلا قليلا، وفي ما يشبه الهمس، وفي فترات متباعدة جدا...
كنا بالنسبة إلى "مصباح" غرباء جمعته بهم ظروف عمل لا غير، لا تعارف بينهم ولا ماضي يجمعهم. وكذلك كان هو بالنسبة إلينا . وسرعان ما هجم الظلام على كل شيء حولنا، فملنا جميعا إلى السير في طابور واحد وراء دليلنا، كأنما كنا نحمل نفس الأفكار والمخاوف، من الأفاعي التي يقولون إنها في الليل تكون أشد ضراوة وفتكا، حين تترك مراقدها وجحورها وتسعى في طلب رزقها. ففضلنا أن تطأ أقدامنا جميعا أماكن تكون قدما مصباح قد مهدتاها لنا !
فجأة توقف هو فتوقفنا ، وسمعنا فحيحا ينطلق من شيء لم نتبينه جيدا في الظلام، خيل إلينا أنّه إطار سيارة قديم فانحرف يمينا وعَدَا مسرعا، فعدونا وراءه قليلا مذعورين. ثم بعد لحظات انفجر مصباح ضاحكا قائلا:
أرأيتم يا شباب، الخوف لا يعترف بالتعب. ثم أضاف: إنها أفعى أرادت أن تعبر لكم عن مدى سعادتها وسرورها بكم في وطنها !ألم تسمعوا فحيحها الرائع؟ ! ... ثم عاد يضحك من جديد.
لم يعجبني شخصيا من "مصباح" هذا التصرف الهازل الذي لا يتناسب مع وضعنا، ولا يخلو من سخرية بنا، ونحن في أشدّ حالات التعب والإجهاد. ولكن لم أعلِّقبشيء. كتمت غيظي ورميت باللائمة على الظروف التي جعلتني في هذا الوضع البائس الكئيب. ثم هدأ غيظي، والتمست عذرا لدليلنا. فلا شكّ أنه بتصرفه ذلك يحاول أن يجعلنا نواجه المشاكل الصغيرة بأساليب مرحة. وذلك أفضل بالتأكيد، فالتشبث بالجدية والصرامة والتهذيب في مثل هذا الوضع لا يجدي .
في آخر الليل هبت نسمة باردة جافة من جهة الجنوب سعدنا بها كثيرا، بعد ليلة قائضة أنفاسها كاللهيب، حملت إلى مسامعنا صدى خافتا لشبّابة يعزفها راع بعيد. منحتني شخصيا شيئا من الاطمئنان أول الأمر، ونسيت مخاوفي لبرهة، ورحت ألقي بمشاعري وأحاسيسي جميعا، بين شآبيب الصوت، ولست أدري كيف ذكرتني بإحدى سانفونيات " بيتهوفن" - ولعلها السابعة – تلك التي كانت دائما تثير في نفسي إحساسا باليأس والإحباط والفجيعة، وتحمل سامعها إلى حافة الجنون، بما يكدسه فيها ذلك العبقري العظيم من رعب على نغم، على شجن، على أشياء غامضة كثيرة. وإذا بي أسرح بعيدا مع توجعات هذه الشبابة ونغماتها الحزينة، وأنشىء في نفسي عوالم تختلط فيها الأحلام بالخيبات عبر شريط العمر، منذ الطفولة الباكرة وحتى إكراهات الحاضر الرجراج. غير أن مصباح لم يأبه لما في الشبّابة من معانٍ على ما يبدو، لكنه علّق على تلك النسمات الباردة قائلا:
لا يغرنكم ما تجدونه في هذه النسمات من برودة ولين يا شباب. أنا أدْرَى بألاعيب الصحراء.
هكذا قال وواصل سيره يستحثنا من جديد في إصرار.
لم يعلق أي منا على ما قاله مصباح. كان كل منا مشغولا بهمومه، وقد أثر التعب فينا تأثيرا بالغا. ولكن حاولنا أن نجدّ أكثر في سيرنا، تلبية لرغبة دليلنا، وخشية من أن يغيب عنا في الظلام، فتتشعب أمامنا المسالك فنضيع وتغتالنا الصحاري...
عند الفجر كنا في وهد شاسع، خلنا انه بلا نهاية. سرنا فيه مدّة من الزمن، ثم توقفنا عندما بدأت الشمس تبزغ حمراء كالجمر.
جلسنا على الأرض، وتناولنا إفطارا بسيطا بسرعة، ثم قام دليلنا إلى كثيب مرتفع قريب منا، صعد فوقه يستطلع الجهات الأربع مدة من الزمن، ثم عاد قائلا:
- سنكمن طيلة اليوم هنا، ذلك أسلم لنا. فزادنا من الماء قليل، وستشتد الحرارة بعد حين، لذا علينا أن نقتتر !
لم نفهم ما يعني بقوله علينا أن نقتتر، غير أنه بعد أن قال ذلك شرع في العمل مستعملا عصاه وسكينا كانت معه، حتى حفر في الكثيب الذي تغطيه نباتات السبط مغارة عميقة، تسع جسمه كله وقال:
- انظروا يا شباب.
نظرنا إليه فإذا به يختار نبتة عرفج كبيرة، يقتلعها من جذعها، ثم أمسك الجذع وأدخل ساقيه في المغارة وراح ينسحب داخلها، ثم جذب النبتة وجرها إلى الداخل فصارت غطاء للمغارة ولم يعد له أثر.
وهكذا اقتتر فعلا وأصبح من المستحيل العثور عليه أو رؤيته.
بعد ذلك خرج وساعدنا على إعداد مغارات مثله أغلقنا فوهاتها بالسبط والحلفاء واقتترنا بعد أن انسحبنا داخلها.
كنا نفعل ذلك بشيء من السخرية والخوف، فلم نألف القيام بعمل كهذا، ولم نسمع به قبل اليوم، علاوة على شكنا في جدواه. غير انه بعد ذلك بساعات، وحين اشتدت الهاجرة وانتصبت شمس أوت في كبد السماء، وراحت تصلي كل شيء عرفنا قيمة جحورنا وجدواها، فقد أصبح من المستحيل اكتشافنا وحمتنا من حرارة الشمس القاتلة.
قضينا يومنا كله تحت الأرض كالفئران. كنا نتحدث مع بعضنا أحيانا ونحن في جحورنا، ولكن مصباح يأمرنا بين الحين والحين بالسكوت، ويصمت هو أيضا لمدة طويلة كأنه يتسمّع، ثم يعود إلى محادثتنا. كنا نشعر بتعب شديد، نحسّ كأن عضلاتنا أصابها التمزق من جراء السير ليلة كاملة في الظلام وسط مفاوز لا دروب لها، تعمرها الأشباح والأخيلة وعواء الذئاب، وفحيح الأفاعي، إلى جانب هذا التعب وهذه المخاوف كنا نكابد توترا يحدثه إحساس الإنسان بأنه مطارد، خاصة وإنّ المسافة التي قطعناها كانت أرضا رملية، يمكن للباحث عنا أن يتعقب آثار أقدامنا خطوة خطوة ، حتى القبض علينا. غير أنه سرعان ما اشتدت الريح وبدأت تلك المفاوز تتعرض إلى زخات رملية تسلخ وجه الأرض. عندها صاح مصباح مبتهجا على غير عادته قائلا :
- ابشروا يا شباب ! الآن أصبح من غير الممكن إطلاقا أن يهتدي إلينا أي كان. فقد طمست الرياح آثار أقدامنا تماما، وجحورنا لا يمكن التفطن إليها، حتى لو مروا حذوها أو جلسوا بجانبها. لذا يمكنكم أن تناموا في أمان، خذوا نصيبكم من الراحة، واستعدوا لمسير ليلة كاملة أخرى.
لم نكن في وضع مريح داخل جحورنا غير أن شدة التعب جعلتنا نستسلم سريعا للنوم غير عابئين بالوضعية الغريبة التي كنا فيها...
فجأة وأنا أتابع حكايته بغاية الانتباه تقع دعوته بالهاتف فاستأذن وتركني متلهفا إلى بقية حكايته العجيبة...
الفصل الثاني :
اشتغل عبدو على هذه السفينة التي تخصصت في الإبحار بين موانئ العالم القديم منذ سنوات طويلة، ولذلك كان يعرف عنها وعن العاملين بها الكثير، غير أن "ريما" أصبحت عقدته على ما يبدو. فمن النادر جدا أن يحدثني يوما ولا يذكر ريما... لست أدري ما سبب ذلك. فبالرغم من كونها جذابة فعلا فلا أعتقد أنها تستأهل كل هذا الانجذاب إليها، إلا أن يكون "عبدو" عاشـقا. وإثر تلميح مني يوما إلى ذلك في إحدى جلساتنا الليلية قال:
" كل امرأة رائعة ترينا شيئا نبصره بأعيننا، وشيئا آخر ندركه بنبضات قلوبنا، سريعا نكون معها في حـالة اشتبـاك، بين الإقـدام و الإحجام. فتعترينا مشاعر متداخلة... هكذا أنا وهذه المرأة منذ أن رأيتها صرت مشدودا إليها، أحاول بلباقة وباستمرار أن أمدّ جسوري إليها، ولكنها تأبى ذلك بذكاء يزيد تعلقي بها.
لقد أقمت علاقات كثيرة مع كثير من الفتيات من كلّ الأجناس، ولي في كلّ ميناء صديقة أو عشيقة، ولكن هذه كانت نوعا مختلفا على ما يبدو. ما تشرّبَ فؤادي أنثى غيرها بهذا القدر من الإعجاب والعنفوان... حتى لكأن تمنّعها وعدم استجابتها لي، وجموحها المفرط، أصبحت كلها دوافع إضافية لي، تدفعني إلى شدة التعلق بها والرغبة في امتلاكها. أحيانا أقرر بيني وبين نفسي قطع علاقتي بها تماما، فأحاول تجاهلها وعدم الاهتمام بها، ولكنها لا تدع لي مواصلة هذا الطريق أيضا بأساليب لم أجدها عند غيرها ! كانت تعيدني دائما إلى نقطة الصفر في علاقتي بها،إلى حدّ أني لم أعد أعرف ، هل أنا المتيم بها إلى حد الهوس والانجـذاب ، حتى استحالت لي مرضا ، أم هي امرأة لها من المكر النسويّ وعمق الحيلة ما يمكنها من جعلي متعلقا بشباكها لا أستطيع منها انفلاتا.
لقد حيرتني هذه المرأة يا سيدي، إن فيها نوعا من اللطف والرقة يشوبهما شيء من كبرياء حزين يجعلني غير قادر على القسوة عليها وتنغيصها، ومع ذلك ينشأ لديّ نوع من التحدي والعناد وتشتد رغبتي في امتلاكها.
يقولون إن سائسي الخيول ومدربيها، يجدون لذة أكثر في ترويض الأفراس الأشدّ جموحا وأكثر عنادا. لأنّ هذا النوع منها حينما يتمّ امتلاكه والسيطرة على وحشيته يكون من أفضل الأفراس عدوا وإنجابا... إلا أنه يبدو أن فرسي عصية على الترويض، وأنا لا أريد أن أكون قاسيا معها فألهب كفلها بالسياط..."
قال ذلك ثم تطلع إليّ باسما وأضاف في شيء من الخبث المحبّب:
هذه يا سيّدي مهرة أصيلة، لم يألف ظهرها مسّ السرج ولا خاصرتها طعن الركاب...
أعجبني تعليقه الأخير على مهرته ولكني لم أعلق بشيء بل زدت اقتناعا بكون عبدو عاشقا فعلا متعلقا بها إلى حدّ بعيد.
غير أني لا أدري كيف استطاع أن يثير في نفسي فضولا زائدا نحوها، فأصبحت مشغولا بها أنا أيضا، أراقبها في كل مكان: في المرقص، وفي قاعة الطعام، وعلى ظهر السفينة في لحظات الاسترخاء، عندما يعمد بعض المسافرين، إلى التمدد على تلك الكراسي الطويلة حول حوض السباحة حين يكون الطقس مناسبا. أحسّ إذا وجدتها بنوع من الانشراح يسري في كياني. أما إذا لم أجدها فإن شيئا من الانقباض يداهمني، فيؤزم علاقتي أحيانا بالأشياء والناس حولي... ولا أخفي أنها كانت امرأة جسورا، سلِسَة، قادرة على إقامة علاقات متنوّعة مع كثير من المسافرين رجالا ونساء، تراقص من تشاء وتتحدث مع الكثير من الشباب والكهول، وتجيد أكثر من لسان. وأحيانا تكون مستمعة جيدة، تنصت بانتباه شديد إلى تلك القصص والحكايات التي يرويها البعض عن حياتهم ومغامراتهم وانتصاراتهم المزعومة، ولا أدري هل رغبت هي في ربط علاقة معي أم أنها بذكائها تنبهت إلى أني أهتم بها وأحاول مراقبة تصرفاتها، أو فهمت أنني أتجسّس عليها، فاستطاعت بجلسة واحدة دعتني إليها على فنجان شاي، أن تعرف عني كل شيء تقريبا. واكتشفتُ أني كنت صيدا لها لا صيادا. فخلال هذه الجلسة، عرفتْ عني الكثير وبقيتْ هي غامضة لدي مع ذلك.
فقد كانت بطريقتها الجذابة تتفادى الأسئلة التي لا تريد الإجابة عنها، وتحيلك على معلومات غير مرغوب فيها ولكنها تقنعك بالاستماع إليها. فقد كانت محدثة بارعة لها قدرة عجيبة على شدّ سامعها إليها وإسعاده بحكاياتها الطريفة. وحين تعمدت مرّة محاصرتها بأسئلة عن خصوصيات حياتها تملـّـصت من ذلك سريعا وفاجأتني بقولها:
أين صديقك عبدو؟
لم أكن أتصوّر أنها تعرف العلاقة الناشئة بيني وبين عبدو وذلك ما سبب لي نوعا من الإرباك بادئ الأمر ثم قلت لها:
من عبدو ؟
قالت باسمة:
الشاب العامل على ظهر الباخرة، لقد حدثني عنك قليلا وقال لي إنك صديق له وهو سعيد بهذه الصداقة وأثنى كثيرا على سموّ أخلاقك ولطفك. فأين هو؟ لم أره منذ أيام.
قلت لها:
لعله من الأنسب أن أسألكِ أنت عنه، فهو معجب بكِ إلى حد بعيد، ولعلي لا أبالغ إذا قلت لك هو متيم بك يكنّ لك مشاعر بالغة الدفء ويحبك كثيرا.
مشى في قسماتها طيف ابتسامة خفيفة، ولكنها رفعت رأسها وأزالت خصلة عن جبهتها ثم قالت: هو شابّ لطيف، لبق وذكيّ. ذكّرني برجل آخر كان حلمي ذات يوم. لا أخفي عليك أني أحسّ معه بشيء من الاطمئنان، وبانجذاب غريب إليه لا أعرف أسبابه. أشعر لسبب ما أني أرتاح إليه وأنهأليف إلي وافتقده إذا غاب ويزداد إحساسي بالغربة والضياع، إذا مرّت أيّام لم أره فيها، ولكن أخشى أن يكون ثرثارا لا يعرف كيف يحفظ سرّ علاقة حميمة، على عادة بعض الشبّان المغرورين. ثمّ سألتني بجديّة أكثر حسب ما بدا لي:
هل تعرفه أنت جيدا ؟
ولمّا كنت أهمّ بإجابتها مرّ بقربنا رجل أشقر في حوالي العقد الخامس من العمر يمشي في صلف وكبرياء بين فتاتين وشابّ، تأملَتْه جيدا ولاحظتُ أنها كانت مهتمة به بصورة غير عادية، فبعد أن تابعته بنظرها وتفحصته مليّا قالت لي :
أتعرف هذا الرجل ؟
قالتها بطريقة تختلف عن طريقة من يريد أن يعرف شخصا يجهله، فهمت ذلك من عزوفها عن البحث في معرفته حين قلت لها: لا بدّ أن عبدو يعرف عنه الكثير، ولكني مع ذلك أجبتها:
لقد رأيته مرة أو مرتين. وسمعت البعض يدعوه باسم الجنرال. ولاحظت أن الكثير من المسافرين يتجنبه، وثمّة من قال عنه إنه رجل دعيّ وثقيل، ذو صلف وكبرياء شديديْن، من ذلك النّوع من الناس الذين لا ترتاح إليهم مهما حاولت أن تلزم نفسك باحترام الآخرين.
قالت لي: أنت لا تعرف ما مهمّتهوماذا يشتغل هنا طبعا؟
قلت لها:
لا أعرف على وجه الدقة. غير أن أحدهم قال لي إنه يتاجر بالفتيات من شرق أوروبا ودول البلقان وإفريقيا وآسيا يقدّمهنّ إلى سفينة الملذات ويأخذ عمولة ذلك.
قالت بلا مبالاة حسب فهمي: تاجر رقيق هو حينئذ.
قلت لها: لعله لذلك يبدو غير مقبول لدى أغلب المسافرين
فواصلت قائلة:
شيء ما في نفوسنا، قادر – أحيانا- على فهم بعض الناس، حتى عندما لا تكون لنا معلومات كافية عنهم. نوع من الاستشعار الغريب غير قابل للفهم ، أحيانا تكون لنا حاسة سادسة.
وهكذا عرفت أنها هي أيضا لا ترتاح إلى هذا الرجل ولا تكنّ له أي قدر من مشاعر الودّ هذا إذا لم تكن تكرهه وتستاء مما يظهره في الغالب من تصرف ينم عن العجرفة والخيلاء. ثم بعد ذلك بادرتني بقولها :
إلى اللقاء الآن. أرجو أن تنقل تحياتي إلى عبدو إذا اتصلت به... قل له : إني مازلت عند وعدي، وإني لسعيدة بأن تكون أنت صديقا لنا أيضا، إذا وافق عبدو طبعا. قالت ذلك ثم انصرفت بعد أن أهدتني بسمة خفيفة ودودا...
انصرفت ريما وبقيت وحيدا مسترخيا على ذلك الكرسيّ الطويل أتطلع إلى البحر بشرود حيث بدأت تظهر أول ملامح الميناء التي كانت السفينة تتجه إليه بعيدا وراء الضباب وبدأت بعض سفن الصيد تلملم شباكها وتستعدّ للرجوع قبل أن تدركها العاصفة التي بدأت نُذُرها تتجمع على صفحة البحر بعيدا في الأفق وفي جميع الجهات...
عندما كنت في البيت وحين دخلت الفراش لأنام وجدتني مشغولا بها من جديد أسترجع المواضيع التي أثارتها معي في ذلك اللقاء الرائع القصير، وأرجع إلى ما قاله عبدو عنها وعن حضورها الآسر، وجمالها الرائع الذي فتنه فأصبح عاشـقا لها. فـقلت بيـني و بين نفسي:
لقد كان محقا فيما زعم. فالمرأة لها جاذبية غريبة حقا. سرعان ما تتفتّح لها أبواب النفس، وسرعان ما تتخذ بها موقعا. فقد منحتها القدرة الإلهية ميزة عجيبة : شيء ما غير واضح ولكنه قادر على أن يفتح لها النفوس ويجعلها أليفة إليك تشعر معها بأنك طبيعي وسعيد تطمئن إليها وتمنحها ثقتك وتحترمها وتصدق حكاياتها على الرغم من قلة ما تحكي واقتصادها الواضح في القول. واستحضرت قولها لي وهي تهم بالانصراف: سلّم على عبدو وقل له إني مازلت عند وعدي.
أي وعد يا ترى ؟
وحين أخذت أفكر في نوع هذا الوعد، وغايته تذكرت أن عبدو جاءني يوما طروبا وقال لي:
" اليوم بدأتْ أولى نجاحاتي معها يا سيدي،
قلت له: ماذا هل بدأت المهرة تألفسائسها وترتاح إليه شيئا فشيئا ؟
قال لي: يبدو أن ذلك بدأ يحدث فعلا. اليوم فقط تحدثت معي طويلا، بل أحسست أنها تريد أن تبوح لي بسر ما، راغبة في الحديث معي، يبدو أن الصبر عليها كان مفيدا، فقد وعدتني بزيارة إلى غرفتي في ليلة قريبة قادمة".
قال ذلك وهو في غاية السعادة ثم راح يحدثني عن آماله وأمانيه وكلها من ريما تنطلق واليها تعود ثم قال لي في آخر حديثه
أتعرف يا صديقي سأعرض عليها أن نتزوج ونبني عشا. أغادر أنا هذه السفينة ونحاول أن نجد عملا في أي بلاد وننجب أبناء ونستقر...
قلت له بين جاد وهازل:
إذا تمّ ذلك فسأكون شاهد هذا الاقتران الميمون وسأكتب عنه في صحيفتنا .قال لي:" برافو"... " برافو" صديقي. ذلك جميل جدّا...
منذ أيام حدثني بهذا وذكر لي وعدها مزهوا، وهاهي ريما حتى الآن مازالت على وعدها له، وذلك ما يؤكد أنها هي أيضا تبادله نفس المشاعر، صادقة معه ، مخلصة له، راغبة في تطوير علاقتها به إلى مستويات أكثر حميميّة. غير أنها مازالت لم تتأكد من صدق نواياه على ما يبدو وكأنْ لم يكْفِها كلًّ هذا الوله بها... الوله الذي يكاد يرفعه إلى درجة مجانين العشق مما جعلني أدعوه أحيانا في سري مجنون ريما.
وراحت ظنوني وهواجسي تمدني بتصورات وأفكار عن هذا اللقاء المنتظر بين عبدو وريما. و أخيرا وجدتني أسائل نفسي من جديد:
لماذا أنا مشغول بها إلى هذا الحدّ؟ هل أصبحت عاشقا لها أنا أيضا، وقرّرت احتراما لعبدو أن أبعدها ما أمكن عن اهتمامي وأدعها وشأنها معه.
غير أن شيئا حدث بعد ذلك أثار استغرابي وتعجبي: فقد رأيتها كثيرا من المرّات قريبة من الجنرال، كأنما كانت تراقبه، أو تحاول أن تقيم معه علاقة ما. ثم حصل أن وجدتها معه ذات مرّة حول طاولة وأمامهما مشروب، معهما شابتان وشابّ في عمر الزهور، وبعدها بليال وجدتها معه في حلبة الرقص.
لم أستسغ الأمر، واشتد غيظي منها، وأصبحت احتقرها. فقد رأيت في تعلقها بهذا الرجل المتعجرف الثقيل تصرفا غير مقبول من وجهة نظري على الأقل، بناء على الأفكار التي كونتها عنها أوّل الأمر. لقد فهمت منها أنّها لا ترتاح إليه هي أيضا وترى فيه رجلا ثقيلا، فما بالها تتقرّب منه وكأنما هي تحاول إقامة علاقة معه !؟ هل تكون منافقة كاذبة كالأخريات ؟ ثم قلت في نفسي: قد تكون غانية كبقية الغواني، ترغب في ابتزاز ماله. أو أنها تريد أن تجعله سلّما لمأرب ما. فلا أعتقد أن يكون الحبّ وحده هو سبب تعلّقها به، لما بينهما من فارق السنّ، إلا أن تكون امرأة شاذة حقا. وتذكرت ما يشاع عنه بأنه يجنّد الجميلات ويتاجر بهنّ. أتراها هي أيضا تريد أن تنضمّ إلى الخدمة على ظهر تلك السفينة أو هي من جملة مساعديه يتخذها وسيلة للتعرّف على الفتيات اللاتي يعجبنه في المقاصف وعلب الليل المنتشرة في تلك المواني التي تتوقف عندها السفينة بين الحين والحين.
مهما يكن من أمر، فمن ناحيتي أنا أصبحت أحمل شكوكا كثيرة حولها، تزداد شخصيتها غموضا لديّ كل يوم. ووجدت نفسي من جديد غير بعيد عن الاهتمام بأمرها.
حاولت إسقاطها من اهتمامي نهائيا غير مرة. ولكني دائما اكتشف أني غير بعيد عنها! هل أصبحت عقدتي أنا الآخر من حيث لا أدري؟ لماذا كلما حاولت الابتعاد عنها، ونسيانها ترميني الصدفة في طريقها، وتجعلني معها وجها لوجه؟ هي نفسها كلما رأتني حاولت أن تجتذبني إليها، وأحيانا تبادلني الحديث، والنوادر، وتقدمني إلى من يكون معها بعنوان: صديقي الصحافي الشهير. فأجد نفـسي مربكـا، لائذا بالصـمت. أو راسما بسمة بلهاء، أداري بها شكوكي وحيرتي...
صديقي ! هل أنا حقا صديقها ؟متى وكيف نشأت هذه الصداقة . الصداقة تفاهم بين إثنين يكونفيه تبادل مصالح ومنافع ومصارحة وصدق. لكن أين الصدق في حديثها معي؟ لماذا لم تبح لي حينئذ بأسرارها يوم دعتني إلى جلسة معها؟ بالرّغم من محاولاتي مرّات عديدة التعرّف على حقيقتها.لقد شعرت بأنها كانت متكتمة معي وبعيدة عن العفوية لم تفتح لي أبواب قلبها كما كنت آمل ...
وهكذا وجدتني أتذكر ما قاله عبدو عنها من كونها تترك بينك وبينها مسافة قابلة لأن تكون أبوابا أو أسوارا، لا تدري هل هي نداء واستجابة أم رفض وعزوف؟!
حدث بعد ذلك أن تغيبتْ أياما لا أدري إلى أين... ولا أخفي عليك أني افتقدتها وخلّفتْ لي فراغا كبيرا فأصبحت عن قصد، أرتاد الأماكن التي كنت أجدها فيها. ولكن لم تظهر طوال تلك المدّة. وأحسست بمزيج من المشاعر المتداخلة لغيابها، غير أني حين كنت أجد الجنرال، وأتحقق من أنها لم تكن معه، تهدأ مشاعري قليلا. لكن عدم ظهور "عبدو" منذ مدة يعيدني إلى حيث تحتدم مشاعري وشكوكي من جديد.
سألت عن عبدو فقيل لي إنه في إجازة مَرَضيّة، أعطاه الطبيب أسبوعا للراحة وغادر السفينة. تأسّفت لذلك حينا وفيما كنت أفكّر في وسيلة للاتصال به أو زيارته لمحت أحد العاملين كنت أراه أحيانا معه يتبادلان أحاديث تنم عن أنهما صديقان ولما سألته عنه قال: كثيرا ما كان يغادر السفينة بعد أن يختلق أسبابا ولا أدري هل هو مريض حقا هذه المرة ، أم ذهب لأغراض أخرى لا يريد أن يبوح بها لأي كان؟ وهكذا فهمت أن العلاقة بين الرجلين ليست كما توقعت ، فأنهيت الحديث معه سريعا وانصرفت. ولكني مع ذلك ملت إلى عدم تصديق خبر مرضه. فقد كان شابا موفور الصحة ، يتدفق حيوية ونشاطا ، وهو مازال في العنفوان قلت في نفسي: لقد خرج عبدو في إجازة عشقيّة، وهو مع ريما ما في ذلك شك. أما أن يكون مريضا، فذاك احتمال بعيد، ولعله مجرد تمويه سخيف. وتصورته معها في أماكن، ووضعيّات مختلفة، أوحى لي بها خيالي وربما غيرتي أيضا.
غير أني تذكرت أن آخر حديث لي مع عبدو لاحظت فيه تغيّرا ما في موقفه منها ، أصبح أكثر احتراما لها، وتحرجا من الحديث عنها، أبعد من أن يكون عاشقا لها، راغبا فيها. صار يميل إلى إحاطتها بشيء من التقدير والاحترام، وذلك ما زاد استغرابي وحيرتي. هل يكون هو أيضا تنبّه إلى تعلقي بها، وانجذابي إليها، فأخذ يرسم لها أمامي، صورة أخرى تظهرها بعيدة عن الشبهات، صعبة المنال؟ هل بدأ يغير عليها مني؟ تكون حينئذ بداية المشاكل وربما القطيعة بيني وبينه وأكون أنا الملوم في ذلك قطعا .غير أني تذكرت قولها لي عنه:
" هو شابّ لطيف، ذكيّ و لبق، ولكن أخشى أن يكون ثرثارا، لا يعرف كيف يحفظ سرّ علاقة حميمة ، على عادة أغلب الشبان المغرورين الذين يختلقون باستمرار، حكايات عن المـرأة يكــونون فيـها دائـما » دونجوانات« وأبطالا تنجذب إليهم حتى الملكات".
ورحت أتساءل: هل طلبت منه أن يكون متكتّما، وأن يقلع عن الثرثرة، ويتوقف عن قصائد الغزل التي كان يضمّخها بها؟ لقد جاءني يوما سعيدا، يخبرني أنها تحدثت معه طويلا وفتحت له أبواب القلب وأباحت له مملكة أسرارها. أيكون قولي لها: إن عبدو عاشق مغرم بك، هو الذي جعلها تطلب منه أن يغير طريقته في الحديث عنها، أم أن أشياء أخرى وقعت بينهما.
وذات ليلة طرق عبدو باب غرفتي. كنا في أواخر الصيف، وعاصفة خريفية هوجاء تعبث بالسفينة، وتهدد كثيرا من المسافرين بالدوار، وتشيع في النفوس قلقا واكتئابا. فوجئت بعبدو، وسعدت به في نفس الوقت. سألته عن ريما، فأفاد أنه لا يعلم عنها شيئا. تحدثنا ليلتها طويلا، بقينا إلى ساعة متأخرة، هدأت العاصفة بعد منتصف الليل، فطاب السمر.
قال لي من جملة ما قال:
الحياة هنا في البحر، أصبحت صعبة ورتيبة يا سيدي، ولولا الخروج إلى اليابسة أحيانا، والحـياة بين الحانات وعلب الليل بعض الوقت ،لأصبحت أعيش في سجن متنقل، ولمتّ من الملح وأشعّة الشمس صيفا، ومن الملح والصقيع شتاء. ولمّا قلت له: أنت تعمل على سفينة جيـّـدة وجديدة، تتوفر على كثير من وسائل الراحة والترفيه حسب ما أرى. قال: لا ليست جيدة ولا جديدة. هذه السفينة قديمة جدا. لم تكن تحمل هذا الاسم، كان لها اسم آخر. ولكن منذ سنوات، فوّت فيها مالكوها لشركة أسفار جديدة، بعدما نال منها البحر، وأكلت ألواحها الأملاح والطحالب. فأجريت عليها بعض الإصلاحات وعادت إلى البحر، تتنقل بين الموانئ باسم جديد.
حكى لي بعض البحارين القدامى الذين التقيت بهم في بداية عملي، كيف كانت "غرناطة". شتان بينها و بين "نيوزلندة". كانت غرناطة، يومئذ جديدة رائعة في كل شيء عروس بحر بحق، ربابينها ومالكوها رجال محنكون، خبروا البحر طويلا، لهم دراية كبيرة بأساليب التعامل مع كل أصناف البحارة، والمسافرين، والأعاصير والزوابع، يستطيعون الإبحار في أمان، تحت كل الظروف.
كانوا يجيدون سياسة البحارة يتفهمون ظروفهم ويحترمون حقوقهم ويتركون لهم هامشا من حرية التصرف يجعلهم يقبلون على عملهم بشغف وجدّ . أما هنا فعليك أن تفكر صامتا ولعله من الأفضل أن لا تفكر إطلاقا وإلاّ فالطرد بلا مناقشة وبلا ضمانات. ولا تستطيع حتى نقابات العمّال ولا منظمات حقوق الإنسان أن تفعل شيئا غير الصراخ الذي لا يجدي.
كانت الخدمات على ظهر غرناطة أحسن بكثير، والأطعمة جيّدة، والغلال تأتي يوميا، طازجة من أقرب الموانئ، أو أسبوعيا على أكثر تقدير. لم نكن نعرف هذه الأطعمة المعلبة، التي فقدت كل قيمة غذائية، ولا هذه الغلال التي تجمّدت في الثلاجات، وبقدر انطفاء نكهتها اشتعلت أثمانها. كان الغذاء جيّدا رخيصا، وأصبح رديئا فاحش الغلاء يا سيدي... إن الرّخاء الذي كان سمة الغرب لسنوات طويلة بدأ يأخذ طريق الأفول....
كانت قوانين الصحة والنظافة، مطبقة بشدة على ظهر "غرناطة"، والناحية التثقيفية والترفيهية تَلقى اهتماما كبيرا، فأجود الكتب، وأروع اللوحات، وأحسن الفرق الموسيقية والمسرحية، كانت تحضَر بين الحين والحين، على سطحها. فتتاح فرص نادرة للمسافرين لأن يتمتعوا بسماع سانفونيات أكبر الموسيقيين، ومشاهدة مسرحيات أكبر الكتاب، ولوحات أروع الرسامين. كان ذلك حين كان ثمة نوع من المنافسة الشريفة على الحرفاء بين شركات الأسفار... أما اليوم وقد استطاعت شركة واحدة مدعومة من قوى غير معروفة تحطيم جميع الشركات فقد أصبحت الخدمات كما نرى.
أنّى توجّهتَ لا تجد إلا الموسيقى الصاخبة، والكحول، والمخدرات، وأفلام الجنس والرعب، وأكلات "مكدونالد المعلبة"، والمخصّبة جينيا والهمبورقر والكوكاكولا.
كان في الماضي، على ظهر غرناطة، أثرياء يمتازون بالذوق والحصافة ، يتاجرون بالتحف الرائعة، ويتبارون في اقتناء روائع اللوحات، والمخطوطات النادرة. أما اليوم، فليس بين الأثرياء، غير تجار السلاح، والحشيش، ومهربي المخدرات والقوادين. كان ثمة روح خيّرة بين المسافرين، يوجد تحابب واحترام، أما اليوم فلم يعد شيء من ذلك. ساءت أخلاق الجميع وسيطرت ثقافة العنف والرعب: منذ مدة تمّ اغتيال ثري من أحد بلدان العالم الثالث، وألقيت جثته في البحر، وبعدها كانت حادثة فظيعة، قتل فيها أربعة أفراد. ولما جرى البحث في دوافعها، وجدوا أن السبب، تصفيات متأخرة، لحسابات سياسية قديمة. ومرّة حرّض أحد قباطنة الباخرة، مجموعة من بحارته، ضدّ مجموعة أخرى، فحدثت مواجهات دامية استدعت طلب التدخل، من القوات البحرية الموجودة في البحر.
قلت له:
لقد ملأتني رعبا يا عبدو. وعليّ أن أغادر، في أوّل ميناء، قبل أن أتعرّض لمشاكل وربما لكوارث أنا أيضا.
ضحك عبدو ثم قال:
أنت محظوظ، لأنك جئت في فترة استرخاء وهدوء. وعلى العموم، أنت لست معنيا بما يحدث، لأنك لا مطالب لك، ولا أموال تخاف عليها...
ثم قال ممازحا:
أنتم رجال الصحافة كالحلاقين في قصور الأمراء لا خوف عليكم إلا من ألسنتكم حتفكم قابع وراء أقلامكم !
قال ذلك ثم جلس من جديد وكأنه يريد تبديد المخاوف التي غرسها في وهمي قائلا لي:
قبل أن أذهب أريد أن أسمعك هذه الطرفة عن الحلاقين:
( كان لأمير حلاق كثير الثرثرة والفضول فبرم به وطرده وقال لوزيره: احضر لي حلاقا قليل الثرثرة فقد أقرفني هذا بثرثرته وفضوله. فجاءه بحلاق آخر طاعن في السن، فلما أخرج آلته واستعدّ للعمل قال له الأمير:
الآن أخذ القوسَ باريها.
فقال الحلاق للأمير:
يا مولاي. ما أوّل هذا البيت؟ فصاح الأمير غاضبا: الله أكبر هربنا من فضوليّ فوقعنا بين يدي من هو شرٌّ منه) .
ضحكنا طويلا ثم حاولت استدراجه للحديث عن ريما، ولكنه أبى أن يستجيب. تحدث عنها قليلا، بطريقة تختلف عن ولعه السابق بها، ورغبته المتأجّجة، ثم أضاف: لقد أرتني ديوان الشعر، الذي استعارته منك، وقرأت لي بعض قصائده:
"عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر"
ما أجملهذين البيتين رائع هو بدر شاكر السياب
قال ذلك ثم شدّ على يدي مصافحا متمنيا لي ليلة سعيدة راسما بسمة عريضة حرت في تفسير مقاصدها. غير أني تأكدت أن شيئا ما، قد حدث في علاقته بها. ربما تخاصما، أو أنه لاحظها تراقص ذلك الأشقر الثقيل، فعزف عنها. ولكن لا يبدو أنه غاضـب منهـا، أو حاقد عليها أو محتقر لها. فلم يذكر شيئا يوحي بذلك أبدا. استغربت ذلك الموقف منه. لست أدري لماذا.
ووجدتني بعد مغادرته لي أزداد حيرة في تفسير غيابها فجأة ، وتذكرت ذلك اليخت الذي ينتصب في أعالي البحار الذي حدثني عنه ذات ليلة. غير أني استبعدت أن تكون ريما من جملة العاملات فيه. أو من بين زبائنه. إذ لو كان ثمة شيء من ذلك فلابدّ أن يكون عبدو على علم به وهو المتيم بها والمراقب لتحركاتها باستمرار ولكان أخبرني بذلك حين تحدث عن سفينة الملذات تلك وحين كان لا يمل الحديث عن ريما... أم أنها انخرطت في العمل هناك أخيرا وهذا ما جعله يعزف عنها ويحاول إهمالها أمامي في أحاديثه؟ !....
الفصل الثالث:
بعد أيّام غادرت الباخرة، بعدما دوّنت كثيرا من الملاحظات والأفكار والانطباعات الصغيرة في شكل يوميات أؤرّخ بها لرحلتي على مألوف عادتي كلما كنت مسافرا حتى تبقى أدقّ الخواطر لديّ وأستطيع متى شئت أن أعيش التجربة مرة اخرى اعتمادا على تلك التفاصيل الصغيرة التي أحرص على تسجيلها باستمرار والتي تجعل الذكريات تحتفظ بكثير من وهجها وحرارتها وحضورها ثم قصدت البلد الذي أتجه إليه، حيث سألت عن صديقي، الذي كنت أعتزم إتخاذه رفيقا مؤنسا طوال إقامتي في هذه البلاد. وكنت قد أعلمته بقدومي ورجوته أن يهيئ لي إقامة مريحة في نزل يكون في وسط العاصمة قريبا من مصادر المعلومات ووسائل الاتصال.
غير أني لم أجده، قيل لي: إنه غادر لحضور مؤتمر تعده إحدى الهيئات الدولية ولكنه قبل سفره، رتب لي إقامة في نزل أنيق غير بعيد عن وسط العاصمة.
قصدت النزل فاستقبلني كهل أنيق مهذّب رحّب بي ونقل إليّتحيّات صديقي وتوصياته لهم أن يكونوا لطفاء معي جدا. ثم تقدمت مني عاملة نشيطة قادتني إلى غرفتي ثم سألتني ما إذا كنت أرغب في أي نوع من الخدماتقائلةً لي:
كلّ ما ترغب فيه متوفّر وإذا احتجت إلى أي خدمة استعمل الهاتف وعلينا الباقي غايتنا أن يكون الحرفاء في أتم راحة هنا. نحن نعمل على أن تكون إقامتك عندنا من الذكريات الجميلة في حياتك. شكرتها فانصرفت بعد أن حيتني بلطف ورقة زائديْن.
كنت أشعر بتعب شديد فقرّرتُ أن أستحم أولا ثم أخلد للراحة والنوم ساعات طويلة فمازال في رأسي شيء من قلق البحر ورائحته ودواره.
وفي المساء، فوجئت بصديقي على الهاتف يعتذر، ويترجاني بأن لا أغادر، وأن أمدّد إقامتي هناك، حتى يتمكن من حضور المؤتمر الذي ذهب من أجله ويعود، وفي آخر المكالمة يقول لي :
أرجوك لا تحرمني متعة لقائك الذي تمنيته طويلا. ونزولا عند رغبته قرّرت مواصلة الإقامة هنا حتى ألتقي به. فقد كنت أنا أيضا راغبا في لقائه لاسترجاع ذكريات جميلة وأيام حلوة عشناها معا وقد كنّا طلابا تطير بنا الآمال والأحلام في كل سماء. لعل ذلك يزيل بعض ما علا الروح من صدإ الأيام. وهكذا بقيت في تلك المدينة أحاول الاستفادة من الوقت المتاح قبل مجيء صديق العمر.
في صباح أحد الأيام كنت أمام أحد أكشاك بيع الصحف والمجلات قريبا من معهد الدراسات الشرقية أتطلّع فيالعناوين في كسلِ مَنْ لديه فائض من الوقت ، لا التزامات، لا مواعيد، لا مشاغل أسرية، يحس أحيانا بشيء من الانقباض منشؤه ربما إحساس بالغربة في بلد لا تعرف فيه أحدا خاصة إذا كان ذلك في فصل الخريف بما يثيره في النفس أحيانا من تبلّد كئيب.
وإذا صوت نسوي يقول: أهذا أنت؟ غير معقول !
تطلعت إلى مصدر الصوت فإذا بي وجها لوجه أمام امرأة عرفتها يوما، " ليمونة " هكذا كنا نناديـها "مزاحا" فقد كان اسمها " ليما" فتاة رائعة تعانق في وجهها الدافئ البياض الحليبيّ الهادئ الذي ورثته عن أمها الألمانية مع تلك الصفرة الذهبية المتوهجة التي يمتاز بها أهل جنوب شرق آسيا والتي انحدرت إليها من جانب أبيها فأحدث ذلك التعانق نموذجا جذابا لأنثى رائعة ذات قوام أهيف وشعر ناعم شديد السواد زادتها ثقافتها رقة ولباقة تأسـرك حـتما عاشـقا كنت أو صديقا أو جليسا جمعتك بها صدفة سفر أو ضرورة عمل.
فإذا ازددت معرفة بها وتحدثت إليها وتحدثت إليك وخبرتها عن قرب وجدت نفسك مجبرا على احترامها وتقديرها لسعة ثقافتها وتواضعها وذكاء روحها ذلك الذكاء الذي يصبح نعمة إلاهية نادرة عندما يقترن بالجمال لدى امرأة تعي جيدا ما معنى كونها أنثى...
لقد كان أبوها - حين تعرّفت عليها أوّل مرّة - سفيرا لبلده، وكنت من جملة مجموعة من الطلبة رتّب لنا إقامة سياحية لمدة أسبوعين في ذلك البلد الجميل. وكانت ليما دليلتنا ومضيفتنا طوال الرحلة، حيث توطّدت علاقتي بها وبأسرتها فكان فرحي ودهشتي لا حدود لهما.
صافحتني بحرارة ورقة فيهما كثير من الشوق والودّ وهي تقول: يا للصدفة الرائعة، متى جئت ؟ ماذا تفعل هنا ؟ ما الحكاية؟ كيف...؟ نوِّرني سريعا حتى لا يتطرق إلي الشك أنني أحلم..
قلت لها:
هل أنت حقا " ليما"؟ ألست واهما؟ هكذا بعد فراق طويل أجدك أمامي مصادفة وبلا ترتيب ولا مواعيد ... يا للحظ السعيد.
قالت ضاحكة:
مهما فعلنا فإن قدرة إلهية تدبر أمورنا وتقود خطانا ... كان مقدّرا أن نلتقي فالتقينا ... هكذا حين يتقدم بنا الزمن ويطول الفراق ونكاد ننسى أحبابنا، وتخمد نيران الشوق فينا، نرتمي كالفراش على ذبالة مصابيح الذكرى ... فإذا نحن نحترق من جديد !
قالت ذلك ثم رمتني بنظرة سريعة ملتهبة. ثم لما تطلعت إليها سجدت أهدابها السوداء الطويلة في شبه ضراعة وحياء، ثمة أشياء استحضرتها الساعة، مواقف ساخنة اندفعت من خلال سجف الذاكرة وأشعلت نارا فيها فتوردت وجنتاها بخفر جميل... ولكنها تداركت سريعا قائلة:
هيا نغادر إذا كنت قد أنهيت شؤونك هنا.
قلت لها:
- لنغادر لكن إلى أين؟
- سيارتي غير بعيدة من هنا ... وأنا في خدمتك وأنت اليوم ضيفي ..
يسعدني ذلك لكن...
قاطعتني سريعا قائلة :
لكن شيء لا تعرفه الصدفة. الصدفة كالبحر ينبغي أن تسلم لها جسمك كله في سلاسة بغير مقاومة، وعند ذلك فقط تبدأ في إبراز أصدافها، ومنح مسراتها. الصدفة يا سيدي أنثى غجرية تتحدّى الأعراف والقوانين جميعا، تفعل ما تـريد فــي الوقت الذي تريـد و بالكيفية التي تريد. فرقتنا حين شاءت فجأة. وهاهي ترمينا وجها لوجه في واحدة من أجمل حماقاتها. لذلك علينا الخضوع لأوامرها وممارسة طقوسها وإلاّ قلبت لنا ظهر المجن، وسقتنا كأسها المرة من جديد...
قالت ذلك ثم واصلت باندفاع طفلة:
علينا أحيانا أن نكون أطفالا بكلّ ما في الطفولة من عفوية وبراءة واندفاع فإذا لمحنا صدفة تلك الأشياء التي نرغب فيها تركنا كل ما عداها ومنحناها وحدها كل اهتمامنا وجعلنا منها مشروعنا في تلك اللحظة فما كلّ مرة تتفتّح الزنابق قبل الربيع...
سألتني ونحن في طريقنا إلى سيارتها.
أرجو أن لا يكون لك مواعيد أو التزامات هذا المساء.
قلت لها ضاحكا:
ما دامت الصدفة لا تعترف بالمواعيد، وقاموسها لا يحوي كلمة " لكن" فينبغي أن نلغي كل التزاماتنا ومواعيدنا ونسلس القياد لها كما تقولين.
- رائع... رائع جدا.
قالت ذلك ثم أخرجت مفتاح السيارة ودعتني للركوب وانطلقنا.
عندما كانت السيارة تنساب بنا في شوارع هذه المدينة الجميلة كانت هي تتحدث باندفاع وعفوية غريبة . تأملتها جيدا: كانت رائعة مازالت في العنفوان لم تنل منها السِّنون كثيرا فبالرغم من كونها في العقد الثالث من عمرها لم تزل تحتفظ بجاذبية آسرة تشع أنوثة وإغراء. كانت بجانبي ترتدي ثوبا بسيطا أصفر باردا كثمرة ليمون ناضجة يتبعثر شعرها الأسود الطويل على كتفيها وتتمرّد منه خصلات تناوشني بين الحين والحين كلما هبّت نسمة هواء، فيغمرني عطرها الحالم فتشتعل نيران في القلب. أحاول جاهدا إطفاء لهيبها...
قالت لي:
لم أكن أتصوّر أني سألتقي بك بعد أن كدت أنسى... أعادني لقاؤك هذا إلى أعز أيام شبابي... ما أجمل ما تأخذ الأيام منا وما أتفه ما تعطينا في الغالب يا صديقي. نغادر مقاعد الدراسة فتهاجمنا المسؤوليات والقيود والالتزامات وتحتوينا دوّامة العادي والمألوف وتنطفئ جذوة الحياة فينا فإذا نحن آلات تمارس عملها في رتابة بليدة... صدِّقْ أني في كثير من الأحيان عندما يشتدّ عليّ ضغط الأيام أعود إلى مذكرات شبابي ورسائل أصدقائي وصديقاتي أحاول أن أنشئ لنفسي عالما أجمل أعيش فيه لحظات سعيدة تعيد إليّ بعض توازني... ربما تقول عني إني رومانسية أو حالمة ولكن تلك هي الحقيقة صدقني. مازلت أحنّ إلى تلك الفترة التي عشتها في بلدكم كانت أياما رائعة في بلد رائع. ثم راحت تسرد لي وقائع وأحداثا عشناها معا كدت أنسى بعضها.
فجأة أوقفت السيارة وقد خرجنا من زحمة المدينة وأصبحنا على طريق ساحلي يناوشه الموج بين الحين والحين ويترك على الإسفلت شيئا من زبد البحر وقالت:
لحظة من فضلك.
بقيت في السيارة وحدي وانفتحت في وجداني بوابة الذكريات:
»...كنا في المعهد. وكنت يومها شابا في العنفوان جلست على المقعد الملاصق لمقعدي فتاة تلبس قميصا أبيض ذا أكمام قصيرة تنفتح أزراره على صدر متمرد ذي ألق محرق بين الصفرة والبياض، به نهدان شابان مشاكسان يشاغبان القميص الحريري وينتصبان في كبرياء وشموخ ...«
»...ها هي معي في تلك الضاحية الجميلة حيث يتحاضن البحر والجبل ويتعانق الأخضر والأزرق ويضيعان في قبلة خالدة منذ بداية الأزل ترميهما معا على حافة الأبدية، والدنيا كلها أمامنا فضاء مباح تسرح فيه أحلامنا حيث تشاء.
هناك على ذلك الـسور الـذي يفـصل البحـر عن الجـبل و يحمي الطريق من الانزلاقات التي تحدثها السيول، جلسنا قليلا... لعبنا وثرثرنا وضحكنا كطفلين، ثم صعدنا الجبل، توغلنا فيه قليلا حيث تشابكت أشجار شوكية خضراء تمنح المكان اخضرارا جميلا وظلالا أليفة حتى وجدنا مكانا بينها جلسنا فيه وحيديْن وقتا ليس بالقصير... ضرّج وجهها حياء أصيل يومها واضطربت بين يديّ قليلا كحمامة خائفة. ثم انطلقت مسرعة كفراشة ولما تطلّعت إليها أسبلت رموشها الطويلة الحارقة وعلى مبسمها طيف ابتسامة وشتْ بفرح وليد يختلج في أعماق الوجدان.
سرّني ذلك وأسعدني ودغدغ غروري وزادتني حمرة الخجل التي ضرّجت وجنتيها جنونا بها واحتراما لطهرها فهي صفحة بيضاء بكرٌ لم تخطّ عليها حتى أبجديات الحب الأولى على ما يبدو.
تركنا الجبل ونزلنا إلى الطريق وسرنا مسافة فيه وعلى قمة عالية ينحسر فيها البحر فتتقدم اليابسة في شبه رأس صغير اتفقنا أن نجلس قليلا.
كان البحر هائجا والأمواج تصطدم بالصخور برعونة وعناد، وفي السماء سحب راحلة موزعة في زرقة السماء بتشويش أخّاذ.
قلت لها:
- ماذا يثير في نفسك البحر؟
- ليس من السهولة أن أعـبّـر لك عن المشاعر والأحاسيس التي يثيرها فيّ البحر. البحر شيء عظيم رائع وأنا أحبّه وأخافه وهذا يكفي !تطلّعْ إليه بعفويّة وألْقِإليه بفكرك وخيالك وانس ما عداه فسوف يهبك إحساسا قويا بالحيرة والروعة والأبدية. البحر شاهد التاريخ وصانع الجغرافيا الدؤوب...
- ما هذا يا ليما شعر هو أم فلسفة؟
ضحكت في سعادة وأخرجت شالا من الحـرير الأسـود من حقيبتها ولفّته حول رقبتها ربما لأنّها أحسّت شيئا من برودة المساء. وبقيت أنا صامتا أتطلع إلى البحر كأني أحاول أن أجد فيه تلك الروعة التي تحدثت عنها.
لقد فهمت أنها تريد التطلع إليه صامتة لفترة من الزمن فحرصت ألاّ أحرمها من متعة التأمّل في سكون وهي فيلسوفة شاعرة...
كان ثمّة سحائب راحلة وسفن صغيرة ذات أشرعة عائدة وبعض طيور النورس حائمة في هذا المدى الذي تتنازعه زرقة واخضرار وبدأ يتفشّى فيه وهج مصفرّ لعشية خريفية تعكس الشعاع الأخير لروعة الشمس وهي تستعد للأفول والذهاب بعيدا في الفضاء الكوني تاركة المسرح كله لروعة الغروب... >>
قطع عليّ هذه الخواطر عودتها بكيس يحوي أشياء وضعتها في صندوق السيارة الخلفي ثم انطلقنا.
فجأة بدأت تخاطبني بالعربية فإذا لغة سلسة أنيقة لم تتخلص بعد من تلك اللكنة التي تسببها بعض الأحرف العربية لغير العرب. غير أنّ هذا العيب استحال لدى هذه الآنسة إلى تميّز رائع يزيدك إغراء وشغفا لسماعها، ويجعل لحديثها بلغة الضاد نكهة فريدة، لا تملّ سماعها أبدا، بل لعلك أحيانا ترغب في تقليدها.
قلت لها:
ها قد أصبحتِ تجيدين العربية في حين أنك قلت لي يوما إنها من أصعب اللغات وأشدها تعقيدا فكيف تمّ ذلك ؟
قالت لي :
كانت لي هذه الفكرة عنها في البداية ولكني اكتشفت أنها فكرة خاطئة من أساسها فهذه اللغة الجميلة حين تمتلكها تجدها من أكثر اللغات سلاسة وظرفا واتساعا... وقد أسعفني الحظ فأصبحت أكاد أمتلكها ولقد استطعت تدريسها في دورة صيفية لمجموعة من أبناء وطني كانت الخارجية تعدهم للعمل في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا... كان ذلك من جملة الأشياء التي منحتني إياها إقامتي في بلدكم الجميل.
قلت لها جادا :
- أهنئك بهذا النجاح وأهنئ العربية بانتساب امرأة جميلة وذكية مثلك إلى الناطقين بها.
ابتسمت في فرح حسب ما بدا لي ثم هدّأت من سرعة السيارة حين بلغنا ضاحية جميلة تتناثر فيها مساكن أنيقة وحدائق غناء فقلت لها:
أمازلت في العمل الصحفي؟
قالت: أجل. ذاك عمل التزمت به وأنا سعيدة بأني بدأت أحقق فيه نجاحا مطردا وأحلم بأن تكون لي صحيفة خاصة بي ذات يوم إن إدارة صحيفتي تثق بي كثيرا ومنذ ستة أشهر وقعت ترقيتي إلى مرتبة الصحافيين المتميّزين الذين توفر لهم الإدارة زاوية خاصة بهم في الجريدة يعبرون فيها عن أفكارهم ومشاعرهم ولهم مطلق الحرية في أن يطرحوا فيها أي موضوع يروق لهم أو أية أفكار يرونها جديرة بالطرح من دون أن يكون لأيٍّ كان التعقيب على ما يكتبون. وعلاوة على ذلك فإن لهم الحق في أن يطلبوا إجازة مدفوعة الأجر إذا ما أرادوا متابعة حدث ما، أو إجـراء اسـتطلاع خاصّ حول بلـد أو حدث من الأحداث.
قلت لها: إذن لقد أصبحت صحافية متميزة من ذوي الرأي والمقدرة.
قالت لي: إنّ صحيفة » قطار الفجر الجديد«...
استوقفتها قائلا: هذا هو اسمها الكامل ؟ ألا يبدو طويلا؟
قالت : نعم كان ذاك اسمها غير انه اختصر ليصبح » الفجر« ولتلك التسمية الطويلة قصّة طريفة:
كان مؤسّس هذه الجريدة قبل أن يباشر العمل في الصحافة يعمل أستاذا محاضرا في إحدى كليات العلوم السياسية ولكن حدث بينه وبين إدارة تلك الكلية مشاكل نظرا لأفكاره المتطرفة فوقع فصله عن العمل وبقي مدة من الزمن متعطلا، وأظلمت الحياة في عينيه، وأحسّ بموجة من اليأس لازمته طويلا... وذات فجر ركب القطار مسافرا إلى صديق له، وفي نيته أن يقترض منه بعض المال، فقد أصبحت أسرته الصغيرةمهدّدة بالجوع. وإذا برجل أشيب أنيق يجلس على المقعد المقابل له ويبادره بتحيّة الصباح بتهذيب ولطف كبيريْن. وبدأ الرجلان يتبادلان الحديث، وفي آخر الأمر عرض عليه ذلك الرجل الأشيب الاشتراك معه في تأسيس جريدة مستقلّة، على أن يكون عليه وحده تمويلها كاملة، وعلى الأستاذ التسيير والتنظيم والإدارة، وكل ما يتطلبه وضعها من إجراءات ولوائح عمل وغيره. وهكذا تمّ الاتفاق بينهما وحملت في أوّل أمرها اسم قطار الفجر الجديد ثم اختصر ليصبح الفجر.
ابتسم الحظّ للصحيفة حتى أصبحت من كبريات الصحف استقطبت أحسن الكفاءات وأعتى الأقلام وأكثر الشباب نشاطا فصارت قلعة من قلاع الإعلام لها قناة فضائية خاصة مرتبطة بها تشتغل على مدار الساعة. تستطيع إذا شاءت أن تهزّ أعتى العروش، وتحمل من تشاء إلى أعلى المراتب، حيث تقعده أرفع المقاعد في سلّم المسؤوليات الوطنية والعالمية ، فتملّقها البعض واحترمها البعض الآخر، وأصبحت بحق سلطة رابعة...
حين بلغنا هذا الحد من الحديثانعطفت بالسيارة يمينا ثم توقفت للحظات أمام حديقة مسيّجة تفيض بعض أغصانها عن السور وتكاد تحجب أجزاء منه بينما تنتصب الأخرى كثيفة عالية في شموخ . إنفتح الباب آليا بلمسة من إصبعها على زر في جهاز صغير للتحكم عن بعد ، ودخلت السيارة مباشرة في ممر ضيق مسقوف بأعواد القصب تدعمها أسلاك فولاذية تظلّلها كروم كثيفة يانعة تتدلّى منها عناقيد ذهبية ناضجة بين أوراق متألقة شديدة الاخضرار . توقفت السيارة فترّجلنا متجهين إلى مدخل الدار ، وفجأة سعى نحونا كلب ضخم متأيّدا كأنه نمر يتشمم مركزا نظراته عليّ ولكن ليما خاطبته سريعا قائلة : اهدأ ( مرنوش ) – هذا صديق ضيف .
أقعى الكلب في مكانه حتى وصلنا إليه فتشمم لحظة ثم سار بجانبنا مرحبا بذيله يتمسح أحيانا بساقي صاحبته التي كانت لا تبخل عليه بالحب والتدليل إذ كانت تخصه بين الحين والحين بمداعبات لطيفة يسعد بها على ما يبدو فيشع من عينيه بريق ينم عن الفرحة والوفاء .
أدخلتني قاعة الاستقبال ورجتني أن أنتظر قليلا ثم ضغطت على زر جهاز التسجيل فإذا موسيقى ناعمة هادية تشيع في النفس إحساسا بالاطمئنان والاسترخاء فرحت أتطلع إلى بعض لوحات كانت تزين المكان .. توقفت طويلا عند ( الجيوكاندا ) تلك اللوحة الشهيرة التي اعتبرت عبر التاريخ رائعة " ليوناردو دافنسي " الخالدة بنظراتها الطفولية الحالمة ذات الحيوية النافذة والملتبسة معا . ولكن اللوحة التي استحوذت على إعجابي وبقيت عالقة بذاكرتي كانت عـملا آخر بعــيدا عـن رومانسـية ( الجيوكانذا) وتفصل بينهما تاريخيا آلاف السنين . كانت هذه اللوحة عبارة عن فسيفساء فرعونية بها أسد يلاعـب غزالة الشطرنج !...مرسومـة بطـريقـة ( الكاريكاتور) مما يحمّلها مضامين حرت في إدراك مراميها ولكنها مع ذلك شدتني إليها بطرافة موضوعها وغرابته ربّما ! .
فجأة يقرع الباب بلطف ثم تدخل عليّ شابة أنيقة خجول تحمل طبقا عليه كأس من عصير التفاح.حيتني بابتسامة محتشمة ووضعت الطبق أمامي وانصرفت في هدوء .
ووجدتني أتساءل :
ترى من تكون هذه الفتاة الصغيرة أتكون خادمتها ؟ هل هي تسكن هذا القصر بمفردها ؟ .
كنت في شبه حيرة فأنا حتى هذه اللحظة أكاد أجهل عنها كل شيء يتعلّق بخصوصيات حياتها، فالأحاديث التي أخذنا فيها منذ أن التقينا قبل قليل ، كانت تتعلق بهموم العالم وأوضاع العمل، ومتاعب المهنة . ولم نتطرّق إلى خصوصيات أيٍّمنا. وكأن اللقاء الذي لم يكن كلانا يتوقعه ، رمانا مباشرة في خضمّ الذكريات، وراح كلّ منا يتفادى السؤال عن خصوصيات الآخر.
لقد افترقنا منذحوالى عقد ونيف، وانقطع التواصل بيننا تماما. وهذه الفسحة من الزمن، كافية لأن تغير من وضعيات الإنسان خاصة إذا كان شابا أو شابة أشياء كثيرة. فأنا مثلا إلى حدّ هذه اللحظة لا أعرف ما إذا كانت متزوجة أو عزباء؟ هل لها أبناء أم لا؟ هل هي هنا مع أمها وأبيها كما عهدتها؟ أم أنها استقلت بنفسها وبنت أسرة؟ وهذا ما سبب لينوعا من اللوم النفسي أو تأنيب الضمير أحسّه شخصيا. فعندما تصادف شخصا عزيزا كانت لك معه ذات يوم علاقة حميمة لم تسع إلى المحافظة عليها عن طريق متابعة أخباره ولو بمكالمة صغيرة، أو ببطاقة معايدة، أو بأي مجاملة في مناسبة ما، وتنساه تماما، فذلك مدعاة إلى نوع من الشعور بالذنب عندما تلتقي بهذا الصديق، وهذا ما أحسه الآن، خاصة وقد حاولت هي على ما أذكر، لمرة واحدة ، بعد رحيلها، حين بعثت لي بمناسبة حلول أوّل عام إداري بعد فراقنا ببطاقة رقيقة، حملتها بعض مشاعرها في شيء من الاحتشام. أتذكر أني سعدت بها يومها كثيرا، وهممت أكثر من مرة أن أكتب إليها، ولكن احتوتني دوامة العادي والمألوف وتراخيت ثم نسيت !
قلت نسيتها؟ لا . ليس ذلك دقيقا بالتأكيد، فلم تكن هي من النوع الذي يمكن نسيانه سريعا. ذكراها بقيت متوهّجة لافحة أحيانا تخطر بالذهن في لحظات الفراغ والتفرّد، تلك المناسبات القليلة في حياتنا، التي تحصل بين المشاغل اليومية، فنضيع أثناءها في شرود يرمينا صدفة على بوابة الذكريات، وإذا ذكراها ساطعة الحضور فيشبّ في القلب لهيب لذيذ ثم وفي لمح البصر، تنتشلنا الأحداث المتسارعة إلى حد القرف والإرباك وتدفعنا إلى الجري باستمرار، وراء أهداف وغايات قد تكون تافهة أحيانا، ولكنها تملكت حياتنا، وأسرتنا تماما، رغما عنا ،وها أني الآن آسف لذلك شديد الأسف وأندم بعد فوات الأوان. وحين ذكرت في معرض حديثها كيف أنها تحت ضغط الالتزامات اليومية تعود أحيانا إلى رسائل أصدقائها وصديقاتها أحسست بحرج حقيقي كتمته آسفا. في حين أنها لم تلمّح إلى تقصيري ولو مجرّدتلميح رغبة في عدم الإساءة لي. ولكن تعرّضت أنا إلى تبكيت عنيف.
قطع عليّ هذه الخواطر، دخولها صحبة أبيها، ذلك الرّجل اللبق والسياسي المحنك، الذي وفر لي فرصة زيارة تلك البلاد ذات يوم، ثم التحقت بنا أمها وإذا بي أصبح في غاية السعادة والبهجة، محاطا بالتقدير والاحترام، وكأنما أنا بين أهلي في أسرتي...
أثناء تبادل التحيّات والقبل والمجاملات العاديّة بهرني مستوى الحفاوة بي، وما أظهرته الأسرة كلّها نحوي من الودّ والتقدير، وما بدا على الوجوه من فرح غامر جعلني أتصبب عرقا من جرّاء ما أحسّه من حرج لتقصيري نحو هذه الأسرة التي احتضنتني يوما وساعدتني ولم أكلف نفسي حتى عناء كتابة بطاقة صغيرة تستشفّ منها أني ما زلت أحفظ لهم بعض الودّ. ولكن صاحب البيت كان ذكيّا لبقا لاحظ ما أعانيه من حرج فسرعان ما أخذني إلى مكتبه ...
دخلنا جناحه الخاصّ فإذا هو مكتبة صغيرة، تحوي أغلب المراجع والقواميس، إلى جانب آخر ما نشر في الشرق والغرب. رفوف المكتبة تغطي معظم الجدران، ما عدا نافذة واسعة تفتح على حديقة صغيرة، تعطر بأريج أزهارها المكان وتضخّ فيه هواء يتجدّد كل حين،.تأملت المكتب فإذا على زجاجه أمام المقعد كتاب مفتوح تأمّلته وبدافع حبّ الإطلاع تصفحت غلافـه فإذا هو(صدام الحضارات ).
سعدت بلقاء هذا الرجل، فزيادة على ما حباني به من عطف ومساعدة ذات يوم، فهو سياسيّ لامع، تقلّب في كثير من المسؤوليات، وكان لمدة تزيد على ثلاثة عقود قريبا من مركز اتخاذ القرار في وطنه، وله إطلاع جيّد على أغلب ما يدور في كواليس السياسة والاقتصاد في كثير من البلدان. وكانت له صداقات مع كثير من الرجال الذين كانوا من ألمع نجوم عصرهم، إلى جانب عمله مدّة غير قصيرة في هيئة الأمم المتحدة، جعلته يعايش كثيرا من الأزمات الدولية ويكون وسيطا فيها أحيانا. وهو مع ذلك وبالرغم من بلوغه العقد السابع من العمر، مازال متوقد الحيوية، حاضر البديهة، لاذع النكتة، قوي الذاكرة. هكذا وجدته وهكذا كنت أراه، فتحركت فيّ غريزة الصحافيّ، ورأيت في مضيفي فرصة نادرة. فرجل مثله لا تخلو تجاربه من ثراء وحكمة، تجعل نظرته إلى أحوال عالمنا بها كثير من النضج وعمق الفهم، وأحكامه ربّما أقرب إلى الواقع من أي إنسان آخر سواه. فأردت أن أجري معه حديثا صحفيا مطوّلا يجد فيه الكثير من قـرائي – ولا شكّ – نكهة مغايرة، إلى جانب ما يمدّهم به من آراء تنير لهم خفايا كثيرة من مشكلات عصرنا. خاصة ونحن في بداية الألفية الثالثة.
كان كريما معي، ودودا كعادته، أجاب عن كلّ أسئلتي برحابة صدر، وبانشراح ملحوظ طوال حديثي معه، عدا تلك اللحظات التي يخالطه أثناءها شيء من الانزعاج، منشؤه أحداث عالمنا المعاصروما فيها من عنجهية وبعد عن الأخلاق حسب تصوّري.
أخيرا سألته:
الآن وأنت في هذه السن، وبعد تجارب ثرية وطويلة، ما هو شعورك العام حيال عصرنا؟ كيف ترى العالم؟ كيف يبدو لك مستقبله؟ ما هي سماته الخاصة؟
قال لي بعد فترة صمت وتأمّل خلت أنها طالت أكثر مما توقعت:
تتملكني الحيرة، صدقني. إذا أنا تأملت أحداث زماننا محاولا تقييمه. وإني لأذكر في هذا المجال فقرة كتبها " تشارل ديكنز" ذات يوم متحدثا عن فترة من حياة أوروبا، أرى أنها تلخص بقدر كبير من الصدق أحوال عصرنا. هذه الفقرة موجودة في كتابه الشهير "قصّة مدينتين" فقد قال متحدثا عن ذلك العصر:
" كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الإلحاد. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء اليأس. كنا جميعا في طريقنا المباشر نحو النعيم، وكنا جميعا في طريقنا إلى الجحيم...!"
إني أجد هذه القولة في كثير من أجزائها توصيفا جيّدا لهذا الزمن. فهو زمن حافل بكثير من المنجزات العلمية في شتى الميادين، وبكثير من المآسي والمظالم ايضا.
قلت له:
فأنت حينئذ غير متفائل ولعلك أقرب إلى التشاؤم.
قال لي:
دعني أعترف لك إني كالكثيرين من رجالات هذا العصر، الذين كتب لنا أن نعيش في الفترة بين القرنين العشرين والواحد والعشرين أشعر في أحيان كثيرة بخيبةأمل فظيعة...لقد كانت أحلامنا سرابا ... فقد اعتقدنا في فترة من الزمن، أن عصرنا هذا سيكون أكثر العصور حكمة وتعقلا وسلاما وأمنا تزول فيه الإمبراطوريات الاستعمارية وتتحقق فيه الحرية لكل شعوب الأرض فتتولى بنفسها تقرير مصائرها وفق مصالحها وتنشأ بين الأمم علاقات تعاون بعيدا عن الهيمنة والتسلط تمكنها من العيش في بحبوحة بعيدا عن شبح الفاقة والجوع. وإنّ العلم والتكنولوجيا سوف يسهّلان هذه المهمّة، بزيادة الإنتاج الزراعي، وقهر الأوبئة والآفات. فيحلّ الأمن والسلام على ظهر كوكبنا، وإن الحروب ستنتهي، وستفكك مصانع السلاح، ويسرّح الجنرالات. ولكن الآن ونحن في بداية الألفية الثالثة، نتطلّع حولنا فلا نجد غير القتامة: ظلم على كلّ المستويات، عنف مجنون، جشع لا حدود له، وفقر يتفشّى، وترسانات هائلة من أسلحة فاقت حتى الخيال فتكا وتدميرا، حتى أصبحنا بمن فينا من المتفائلين أمثالي، نتوقّع نهاية مأساويّة لكوكبنا البائس.
قال محدثي ذلك في نبرة تنمّ عن أسى حقيقي، وحزن عميق، ثم توقف للحظات، أخرج من جيبه علبة سجائره ثم واصل:
عالمنا اليوم يا سيدي مقبل على فترة حرجة بالـغة الخطورة ، وإن جوّا من الحيرة والإحباط على المستوى الكوني كلّه تقريبا، تلحظه لدى أولئك الرجال الذين لهم من النضج ما يجعلهم يعرفون أن هذا العالم هو عالمنا، وهذه الأرض هي أرضنا جميعا، وإن مصيرنا مرتبط بهما، وبعلاقاتنا مع بعضنا البعض. ويوم أن ينهار هذا العالم – لا قدّر الله – فسوف نتلوى جميعا تحت الأنقاض ونتألم بعمق، ثم ننتهي. الأشرار والأخيار جميعا، ولا مجال يومها للندم ولا لنظريات صِدَام الحضارات وبقاء الأقوى وغيرها من أطروحات هذا الزمان، لا شيء غير العدم والخلاء السديميّ الرهيب.
ثمة كثير من المراقبين والدارسين لأدبيات هذا العصر وأفكاره، يرصدون ظواهر شبيهة بتلك التي كانت سائدة قبيل الحرب العالمية الثانية: ثمة شعور عالمي حاد بضياع العدالة، وعبثية القوانين الدولية، ويلحظ الجميع نشوء نزعة جديدة لدى أمم قوية سمتها الواضحة رغبة أكيدة في السيطرة على منظمة الأمم المتحدة، وجعلها مصيدة لابتزاز الشعوب وتدميرها، وسرقة خيراتها، في حين يفترض أن تكون هذه المؤسسات هياكل لمساعدة الشعوب، والارتقاء بها إلى الحرية والعدالة وحماية مصالحها. الأمر الذي جعل كثيرا من تنظيمات يائسة وفاقدة للأمل، تظهر سرا وعلانية، هنا وهناك، وتمارس العنف والتطرف إحتجاجا على هذه السلوكات الدولية.
لقد كنت من جملة قلة من المتفائلين أحلم بأن تتمكن الإنسانية، عن طريق مفكريها وعلمائها وساستها، من إقامة عالم آخر جديد. عالم تكون فيه الحرية قد تحققت لجميع الشعوب، والرّخاء قد عمّ جميع أنحاء المعمورة. عالم تكون المشكلة الوحيدة فيه، والتي يتصدّى لها علماؤه ومفكروه، وساسته ايضا هي كيف يمكن باستمرار، تجديد موارد الكون، والحفاظ على عذرية الأرض، بإيجاد وسائل ناجعة، لتخليصها من مخلفات الاستغلال العشوائي. حتى تعود لها بكارتها، ويعود لأجوائها ذلك النقاء الجميل الذي يجعل حياتنا أسعد، وأعمارنا أطول، وأفراحنا أكثر، وغذاءنا أوفر وأقلّ كلفة، وأكثر تنوعا. ونجعل عالمنا متسامحا ودودا لا يعرف القهر والظلم والعنف.
كان ذلك كما قلت لك حلما. ولقد بدا للحظة وجيزة، أنه ممكن التحقق. ذلك يوم أن تمّ القضاء على النازية، وأعيد إنشاء الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم التي ترهّلت وعجزت عن منع اندلاع تلك الحرب التي حصدت الملايين. يومها أصبح مطلب الحرية والمساواة بين الشعوب شعارا مرفوعا ومطلبا يتردد على كل الشفاه. قلت لك للحظة "وجيزة"، وأؤكد على ذلك جيّدا، إذ سرعان ما اكتشفنا فيهيئة الأمم المتحدة جرثومة هلاكها في نفس قوانينها، إذ كان في هذه القوانين إغراء جدي بأن تعمد إحدى الدول الكبرى، إلى رفض القرارات التي لا تلائم مصالحها، أولا تروق لها، مهما كانت هذه القرارات نزيهة وعادلة وضرورية لسلام العالم. هذا علاوة على أن أهم هيآت هذه المنظمة اقتصر التمثيل فيها على نصف الكرة الشمالي وحده. أما النصف الجنوبي فقد استبعد تماما وكأنه غير موجود وهو الجزء الأكثر فقرا والأشدّ تعاسة وتوترا.
قلت له:
حينئذ ليس من باب التشاؤم ولا المزايدة ما بدأنا نسمعه من حديث عن النهايات: نهاية التاريخ، نهاية الحضارة، نهاية الدولة القومية، نهاية العالم، نهاية الإنسان وظهور المخلوقات الرقميّة...
قال لي:
إذا شئت الصدق أقول لك إن هذه الأنّات الحزينة وهذه المخاوف لها فعلا ما يبرّرها. إن الكثير من المفكرين يسيرون في هذا الاتجاه، وهم يعزون ذلك إلى عوامل مختلفة، أهمها الاستعمال أللاّ أخلاقي للعلم، فيرون أن العالم مهدد فعلا في أجناسه، ونباتاته، بالانقراض. لأنّ الإنسان ما فتئ يدمّر الطبيعة، ويفسد عملها، حتى وضع نفسه في هذه الجدليّة البائسة، جدليّة اليوم الأخير ومخاطرها الفظيعة. فكانت المخاوف حقيقيّة من التلوّث الذي بدأ يلفّ الكون، وجنون البقر، والأسلحة الجرثومية والإنحباس الحراري، وأمراض " السيدا" ومخاطر العبث بالجينات، ومخاوف أخرى كثيرة.
حين بلغنا هذا الحدّ من الحديث دخلت ليما تدعونا للغداء...
الفصل الرابع :
أمضيت مع "ليما" أياما كانت أجمل الأيام، أخذتني فيها إلى كثير من المنتزهات الرائعة، والمعارض، والمواقع الأثرية، والمتاحف والمسارح. جعلتني سعيدا حقا، مقبلا على الحياة وأفراحها، وما انتثر فيها من جمال، بنهم وتلقائية تشبه نهم الأطفال وتلقائيتهم، إزاء ما يحبون. وازددت ولعا بها، بدأت الكلفة تسقط بيننا شيئا فشيئا، خلّصتني من عقدة الذنب التي كنت أحسها حيالها، بأسلوبها في التعامل معي، ذلك الأسلوب المخمليّ الذكيّ على تلقائيته ومباشرته، فقد كانت من ذلك الصنف النادر من النساء اللائي يقدنك ولكنهن يمشين وراءك ويظهرن لك كما لو كنت ملكا وهن وصيفاتمطيعات، فيطلن بذلك أمد الدفء المسكر بقربهن ذلك الدفء الذي يفعم الروح بالبهجة ويتواصل خدره لذيذا حتى بعد الفراق. وذلك ما سحرني وزادني إعجابا بها، وثقة فيها، ووجدت نفسي عاشقا لها، انبعثت الذكريات القديمة ونبضت بالحياة، وتوهّج الحبّ القديم كتوهّج الجمر. وأحسست نحوهابذلك الانجذاب العنيف، الذي يتجاوز حدود الإعجاب والتقدير والاحترام، إلى تلك الرّغبة الجامحة التي تنشأ في نفس الرجل في فترة من حياته، ليمتلك أنثى يراها مكمّلة له، ضروريّة لكي يكون لوجوده معنى، توفّر له ذلك الاستقرار النفسي، والاتزان العاطفي وتمنحه ذلك الهناء السعيد، الذي يجعله يرى أنّ الحياة حلوة، وشهيّة توفر قدرا غير قليل من المباهج والمسرات ينمو فيها الأمل ويزدهر...
عرضت عليها أن نقترن ونكوّن أسرة. خاصّة وقد لاحظت منذ أن التقينا، أن فرحا طفوليا يسكنها، يتجاوز حدود الحفاوة والترحيب بصديق قديم. فقد ألغت كلّ ارتباطاتها، وكرّست كلّ أوقاتها لي، فكنا متلازمين باستمرار ولا نفترق إلاّ لساعات أثناء الليل. فكم من حدائق ومنتزهات رائعة شهدتنا نسير الهوينى معا متخاصرين تحت اشعة قمر سبتمبر الحانية الضحوك، لا يرافقنا غير ظلنا. وكم من نسائم هفهافة حملت وشوشاتنا وأحلامنا وضحكاتنا الصغيرة، وكم من خمائل سترت قبلاتنا المختلسة وخدرنا ودوارنا بملامسة ذلك الشعر الناعم الكثيف ترميه الريح أحيانا على وجوهنا فتسكرنا رائحة الطيب وهمس الحنان فنحسّ أنه لا ينقصنا شيء وأننا ظمآنان نكرع حتى الارتواء رحيقا مستقطرا من ينابيع الحبّ...
حين عرضت عليها ذلك، تضرّجت وجنتاها بحمرة متوهّجة. ثم أسبلت رموشها السوداء الطويلة للحظات، وبقيت ساكتة، ذلك السكوت المحرّض الذي تختصّ به الأنثى وحدها في بعض المواقف. تشجعت وعرضت عليها اقتراحي بجدية أكثر، أضاء محياها طيف ابتسامة مقتضبة، ثم عدلت من جلستها، وسوت خصلات من شعرها، وحاولت أن تجيب، ولكنها بقيت حائرة على ما يبدو. لم أستغرب ذلك منها، بل إزددت إعجابا بها ورغبة في امتلاكها. فقد رأيت في موقفها هذا دليلا على ما توليه للموضوع من أهمية، وليس ذلك غريبا، فشابة في نفس مواصفاتها، وفي مثل سنّها، اكتسبت ولا شكّ، درجة من النضج، تجعلها تقدّر تماما، ما معنى الارتباط برجل مدى الحياة.
أجابتني أخيرا:
أنا لا مانع عندي من حيث المبدأ ولكن...
قالت ذلك ثم سكتت كأنّها حائرة أو أن الأمر فاجأها.
فقلت لها:
إذا لم أكن مخطئا فأنت موافقة من حيث المبدأ ولكنك تريدين مهلة للتفكير. أليس كذلك؟
ابتسمت ومدّت يدها إلى الكأس تلهو به بعفويّة، ثم أجابت:
ذاك تماما ما أردت أن أقول. ولكن هل فكّرت أنت جيدا في الموضوع ؟
قلت لها وقد أردت أن أكون معها صريحا:
منذلقائنا الأوّل نشأت هذه الفكرة لديّ، حين رأيتك غمرتني زخّة فرح عجيب، أضاءت جميع كياني، وبقي هذا الفرح يعتمل في نفسي، ويتوهّج باستمرار. وكلّما مرّت الساعات وأنت معي، كنت أكثر سعادة وانتشاء، وكأني ولدت من جديد. حتى لكأنّ الأيام التي قضيتها بعيدا عنك، فترات ضياع، وبحث عن شيء مفقود، شيء أحتاجه احتياجا أكيدا، وهذا الشيء هو أنت. والآن ها أنـا أسمع فـؤادي يــصرخ كـ "ارخميدس" وجدتها... وجدتها...
ابتسمت في فرح ثم قالت لي :
أنا سعيدة بتلقائيتك وصراحتك ومباشرتك، فهذه كلها صفات احترمها في الرجل. ولكي أكون صادقة معك، وصريحة، فإني لا أخفي أني أنا أيضا منذ أن لمحتك صدفة، أحسست أن شيئا ما استيقظ في كياني... إحساس غريب مرهف طازج، صبوة نحو شيء ما، حدث ذلك فجأة، وبدأ يكبر ويكبر، كما تنمو زهرة في كمّها، ثم تتفتح بتلاتها قليلا قليلا حتى تكتمل وردة، ويكون لها أريج، ويكون لها ألق، ويكون لها وهج. وإذا أردت الصدق أكثر، فإن هذا البرعم استقرت بذرته في كياني، منذ سنوات طويلة. عشت به أملا، وحلما. وعقدت العزم على أن أخلص له، وأرعاه، وأتحمل جميع التبعات، إذا لم تتح له، فرصة التفتح والحياة.
قالت ذلك ثم رمتني بنظرة هزت كياني وآلمتني.
قلت لها:
ها قد جاءت الفرصة أخيرا، ليتفتح البرعم. فلا ينبغي أن نضيعها مرة أخرى .
قالت :
أنا أوافقك على ذلك، ولكني مازلت مصرة على أن تمنحني مهلة للتفكير في الموضوع مليا...
مساء السبت كنت على موعد مع ليما، فقد أصرت على أن تأخذني معها إلى قصر الأوبرا، لمشاهدة عرض لأوبرات نالت إعجابها زيادة في الحفاوة بي وإكرامي. وحدّدت لي موعد وصولها إلى بيتي، وهو السابعة والنصف. ليتسنى لنا أن نتناول العشاء في بعض المطاعم ونتحدّث قليلا قبل موعد العرض.
رحبت بهذه الدعوة، وسعدت بها كثيرا. ورحت أهيئ نفسي لاستقبالها في غرفتي ...
في الموعد بالضبط طرقت الباب، وارتج شيء ما في داخلي... فتحت لها الباب مبهور الأنفاس. فدخلت متألقة كزهرة، شذيّة متوهجة. فلم أتمالك من أن أضمها قائلا:
أحبك. ثم منحتني ثغرها في حنان...
ونحن في طريقنا الى المسرح قالت لي يحكى أن "أوسكار وايلد" بعد أن أتمّ كتابة هذه المسرحية ذهب لتناول عشائه في مطعم كان تعوّد أن يتناول فيه وجباته، وكان بهذا المطعم فرقة غجرية، تتولى العزف أثناء تناول الحرفاء وجباتهم.
" بذخ ذلك الزمان الجميل "
هكذا علقت رفيقتي ضاحكة ثم واصلت:
وبعد أن تناول عشاءه، نادى رئيس الفرقة وقال له:
أريد أن تعزف لي معزوفة تصوّر امرأة عاشقة، ترقص حافية القدمين، على دم حبيبها، الذي فعلت المستحيل من أجله، وحفيت قدماها لكي تنال رضاه، ثم تسببت في موته !...
قلت لها مداعبا:
ومن الحب ما قتل.
قالت في تعريض مقصود:
ليس دائما على كلّ حال.
ضحكنا في سعادة ثم دخلنا...
من المشاهد التي انطبعت ليلتها في ذهني مشهد الجلاد يمدّ طبقا فضيا، وعليه رأس مضروب العنق، ناضب الدم، فتمسك البطلة بالرأس الذي هو رأس حبيبها، وتبدأ في غناء كالنحيب، يتخلل شآبيب صوتها كثير من الحزن، وكثير من الغيظ والتشفي، وربما كثير من الندم أيضا فتقول:
لن تعذبني بمنعي من تقبيل فاك "جوكنان" بتمنعك المفرط الزائف، أشعلت براكين غيظي... حسن... سأقبله الآن كما أريد، سأقضمه مطمئنة، كما يقضم المرء تفاحة ناضجة... لماذا لا تنظر إليّ ؟ هل أنت خائف مني جوكنان؟ ألهذا لا تنظر إليّ...
مازلت أنا على قيد الحياة يا جوكنان ولكن أنت ميت. ميت ورأسك الآن ملكي، سأفعل به ما أشاء، بإمكاني أن أرميه للكـلاب، أو للطيور... أخ... أخ جوكنان أنت وسيم جدا، لم أر بياضا كبياض بشرتك، لم أر شيئا كسواد شعرك، وليس هناك في العالم حمرة لاهبة كحمرة شفتيك... لقد رأيت ربك جوكنان ولكن أنا لم ترني. تعاميت عني واحتقرتني. ولو أنك رأيتني لعشقتني، وغموض العشق أعظم من غموض الموت. أخ جوكنان ليس في العالم شيء كحمرة شفتيك دعني أقبلك...
انتهى العرض وخرجنا. كنت في غاية السعادة، والانتشاء بما توفر لي من متعة ورحت أشكر ليما على إتاحتها هذه الفرصة الجميلة لي بمشاهدة هذه الرائعة الخالدة بالرغم من أنها مأخوذة عن أسطورة قديمة ضاربة في جذور التاريخ ملخصها أنّ يوحنّا المعمدان تعلّقت به بغيّ يهودية ولكن أظهر لها تمنعا وعزوفا لم تفلح كلّ حيلها في التغلّب عليهما ولمّا يئست منه أغرت الحاكم الروماني " هيرودوس " وأوقعته في غرامها ثمّ اشترطت عليه أن يقدّم لها رأس يوحنّ المعمدان كمهر لها وهكذا وصلت بالمكر والخديعة إلى الانتقام من حبيبها الذي هامت به شديد الهيام . إلا أن العملاقين الخالدين "أوسكار وايلد" و"ستراوش" استطاعا أن يجعلا منها عملا عظيما، يوقظ الروح والمشاعر والغرائز جميعا. الأول عن طريق افتراع الأسطورة وتوليدها مشاهد حسية تكاد تكون واقعية مثلما يحصل في كل زمان ومكان حيث جعل البطلة تقوم بدور العاشقة المولهـة تــذوب حـبا ووجـدا تتـبذل " لجوكنان" وتحاول أن تستميله بكل الوسائل بينما هذا الأخير متشبث بدور النبئ بما يمثله من عفة وعزوف عن المفاتن المحرمة فيزداد عنادا وتزداد هي له عشقا. والثاني عن طريق نزع عباءات التاريخ عنها وإلباسها غلالة شفافة بهذا المهرجان الرائع من الأنغام والأصوات والرقصات. فإذا المشاعر والأحاسيس والخلجات تكاد تظهر وتنفلت خلال شلالات الصوت، وإذا نفس المشاهد في تحفز تكفي بعض الخلجات لكي تجعلها تدوي. في تقوى وخشوع حينا وحينا تكاد الغرائز والمشاعر تنفلت وراء ما يمثله جمال البطلة وطرحها وشاح الحشمة في التعبير عن مشاعرها، وولهها بحبيبها المشغول عنها بمبادئ وتعاليم تجعل صراحتها ومباشرتها في التعبير عن عشقها له خطيئة لا يقرها الدين...
حين عدت إلى النزل دخلت غرفتيفوجدت أن ليما قد تركت لينسخة من صحيفة الفجر مع ملحق أسبوعيّ تشرف عليه وتحرر بعض أعمدته هي نفسهاوضعته على المنضدة قبل خروجنا.
كان الملحق حسن الطباعة جيّد الورق، وملوّنا، يعكس الوضع المادي الجيد لصحيفة الفجر، فهو من الجودة إلى الحد الذي يجعله أنيقا فعلا، حافلا بالاستطلاعات والبحوث والرسوم يتصدره رسم "كريكاتوري" تجعل له عنوانا "بحيرة العمّ الكركدن" ...
تأملت الرسم فإذا حيوان ضخم الجثة شبيه بالكركدن غير انه كثير القرون حادّ الأنياب يستحمّ في بحيرة صغيرة في غابة بدأت تتصحّر. تتأمّل جوانب البحيرة فترى الحشائش والأشجار التي كانت يانعة قد داسها الحيوان المتعجرف، ودهس الكثير منها بأظلافه الكبيرة الثقيلة، وما بقي غطته الأوحال التي يثيرها الكركدن عندما يعبث في مياه البحيرة الضحلة، إلى جانب فضلاته الكثيرة المتناثرة على مساحات واسعة، وترى الأشجار بعيدا عن البحيرة قد سقطت أوراقها ويبست من جراء أنفاسه السامّة القاسية التي اختار لها الرسام ما يشبه الأشعة تنبعث من أنفه ومؤخرته. ثمة حيوانات كثيرة هربت من الغابة في خوف تنظر إلى بقايا جثث مثيلاتها ووقفت بعيدا تتطلع إلى الكركدن في ذعر وتحفز للهرب، غير أن مجموعة من الذئاب والثعالب راحت تتلكأ في سيرها، وكأنها تحاول أن تجد وسيلة للانقضاض على هذا الحيوان، ولكن يبدو أن الفرصة مازالت غير مواتية، ما عدا ثعلبا وحيدا راح يقترب أكثر من الكركدن ويكاد يلتصق بذيله، وكأنما هو قد أنس به ويريد ربط علاقة معه وعلى أحد فروع شجرة يابسة غراب جاثم في هدوء ينعق.
تحت اللوحة تعليق ساخر صغير يقول:" تصير الطبيعة كأجمل ما تكون عندما تلمسها أصابع فنان يعرف ما يفعل ويفهم العلاقة بين حساسية الإنسان وحيوية الطبيعة".
قلبت الصفحة فاذا في صدرها مقالة صغيرة في مستطيل اخضر عنوانها هكذا:
"قلبي في رباها!"...
تقول فيها:
ثمة بين بلدان العالم مدن نعيش فيها فترة من الزمن فإذا هي تسكننا بقية أعمارنا، تملأ علينا جميع فضاءات خواطرنا وتقترن بأجمل ذكرياتنا، تمنح الخصب والنماء لحقول أعمارنا، يستوطن ناسها ومعاهدها، مقاهيها ومطاعمها، مسارحها ومنتزهاتها، هواؤهاوبحرها، أمسياتها الضحوك وصباحاتها المشمسة، كياننا وتنتقش كالوشم على جدران النفس فلا تمحوها الأيام، حتى إننا لنحس بشيء من الانقباض والحسرة ونحن نتخيل أنها بدأت تنأى عنا، وان ناسها أو على الأدق بعض ناسها الذين يعمّرون حواضرها بدؤوا ينسوننا، أو بدأنا ننساهم. وبالمقابل تغمرنا السعادة والانشراح، حين نرى أن أولئك الأحباب مازالوا يذكروننا، وإننا نعيش في قلوبهم كما هم يعيشون في قلوبنا لأن أي مدينة هي في الواقع ليست مباني ومساحات، حدائق وتضاريس وحسب إنما هي قبل ذلك وبعده بشر. بشر نرتبط بهم بوشائج وعلاقات فيها الود والحبّ والانبهار والانجذاب وهؤلاء البشر هم الذين يخلعون أجمل المعاني على تلك العلاقات ويجعلونها جياشة بالحضور في قلوبنا، وهم وحدهم من نلومهم أحيانا، أو نلوم أنفسنا، حين نحسّ أن الوشائج بيننا بدأت تتآكل وتندثر. وكم تكون سعادتنا غامرة حين نلتقي بهؤلاء الأحباب صدفة وبلا ميعاد ذات يوم... فنقول لهم أهلا ... بالأحـضان أهـلا... لماذا تأخرتم كلّ هذا الزمن ؟ لماذا جعلتم للإنتظار كلّ هذا العذاب كلّ هذا التوغّل في الشكّ حتّى ظمور الأمل وظهور بوادر اليأس ؟... ثـم تمضي " ليما".
اعدت قراءة الكلمة مرة اخرى بتأنٍ مقصود كما يقرأ مراهق رسالة غرام أولى. منتشيا بفرح طفولي كالمراهقين تماما فقد رايت في المقالة رسالة مبطنة موجهةإلي وحدي من خلال تلك البلاد التي يعيش قلب الكاتبة هائما في رباها ووجدتنيأردد المقطع الاخير قائلا : اهلا.. بالاحضان اهلا...
صدفة أهدت الورود إلينا
وأتاحت لقاءنا فإلتقينا
هكذا كان صوت أم كلثوم بدفئه وشراسته معا يجرّح القلب ثمّ يضمّخ جراحاته بمخمل الحب والحنين ...
رحت ألقي بكياني إليه حتّى أخذني النعاس والأمال تهدّدني .
بعد أيام كنت في المطار أودّع " ليما" ... حين انفصلنا عن بعضنا بعد أن ضمتني بحنان وأبقيتها في أحضاني كطفلة وقتا ليس بالقصير ورأسها على صدري أربت على كتفيها وأمسح بلطف وحنان شعرها، رأيت في عينيها دمعتين حاولت اخفاءهما عني فالتفتت نحو طائرتها ومضت مسرعة. لا أدري لمن كانتا تلك الدمعتان ألأبيها وأمها اللّذيْن كانا بجانبي أم هما من اجلي أنا... غير أن امها علقت بعد ذلك قائلة: عجبا لقد سافرت قبل اليوم كثيرا ولم تكن متأثرة كهذه المرة؟
مهما يكن من أمر فقد أحسست عندئذ أن شيئا ما ينشطر في كياني... يترك خرابا موحشا في قلبي ويرحل معها إلى ذلك البلد البعيد الذي تريد ملاحقة أخباره وتغطية أحداث هناكحيث تحتدم ملحمة فيها كثير من الدم والبارود... وأحسست بكثير من الحزن لفراقها. فقد الفتها جدا وسكنتني بعنف، واحتواني حضورها الرائع تماما خلال الأسابيع التي أمضيتها معها، والتي كانت أجمل الأيام وأكثرها بهجة وسعادة. ولا أخفي انه داخلني شيء من الخوف عليها أيضا، فقد أصبح الصحافيون في هذا الزمن عرضة للموت في كل لحظة خاصة إذا اتصفوا بالحرص والأمانة في تأدية واجبهم، وأصروا على الوصول إلى خفايا الأمور، وتلك بعض صفات زوجتي... لم أكن في واقع الأمر راغبا في ذهابها، ولكن عزّ عليّ أن أقف أمام طموحاتها خاصة ونحن مازلنا في بداية حياتنا المشتركة وهي شديدة الرغبة في أن تكون صحافية لامعة ومتألقة وذلك من حقها طبعا.
عند وصولها إلى هناك هتفت لي: قالت انها في عجلة من أمرها وانها اتصلت فقط لكي اطمئن عليها ثم داعبتني مداعبة صغيرة واقفلت الخط...
وهكذا أصبحت لي عادة جديدة في غيابها: صرت اتابع أخبار تلك الحرب بحرص غير عادي وأسعد اللحظات عندي تلك الدقائق التي أراها امامي تقدم تقريرها بتلك اللغة المتفجرة وذلك الاسلوب الأنيق الذي يجعلها نجمة متألقة في نظري على الاقل فيغمرني فرح طفولي.
وذات مساء كنت أمام التلفاز وإذا إحدىالفضائيات، تعرض خبر اغتيال ضابط كبير مع اثنين من أصدقائه، ثم في نشرة لاحقة، عُرضت صور الضحايا. وإذا بي أفاجأ بأن المستهدف، هو نفس الرجل الذي كان ضمن المسافرين على الباخرة، التي كنت عليــها و الذي ينعته البعض بالرجل الثقيل. ثم ذكرت المذيعة أن الشكوك تحوم حول شابة، اختفت من الباخرة، مع أحد العاملين بها ليلة الحادثة. ولست أدري لماذا وجدت نفسي مباشرة، أتذكّر ريما وعبدو وبقيت حتى ساعة متأخرة، أتابع الحدث وألاحقه، من محطة إلى أخرى، وإذا به يتضخّم، وتتسع أبعاده، ويزداد وضوحا، وفي آخر الأخبار، تبينت أن الحادث لم يقع على ظهر الباخرة، التي كنت عليها وليس على متن ذلك اليخت الذي حدثني عنه عبدو "سفينة الملذات" ولكن في أحد جزر بحر "ايجه" وفي أفخم نزلها، وأن المستهدف، وقع استدراجه من المرأة وصديقها، إلى هذا المكان، في ظروف غامضة...
عدت بالذاكرة إلى آخر لقاء بيني وبينها، واستحضرت الوقائع، والأقوال، والأشخاص جميعا. أحاول ربط جديد الأحداث، بقديمها، لكي أتمكّن من إقامة توصيف دقيق للحادثة: ظروفها، ملابساتها، والأطراف الداخلة فيها، التداعيات الممكنة، المتصلة بها، حتى أتمكن من إعداد مقالة في الغرض، وإرسالها إلى رئيس التحرير بأسرع وقت ممكن. أقطع بها الصمت الذي طال بيني وبينه وأخفف من تذمره الذي بدأ يبديه من كون إجازتيطالت أكثر مما يجب وجاءت في غير أوانها. فرحت أتابع الموضوع بحرص شديد. حتى أشارت بعض وكالات الأنباء، إلى أن المرأة عندما كانت على ظهر الباخرة، أقامت علاقة مع صحفيّ، كان من جملة المسافرين. واتخذته صديقا ويمـكن أن يكـون على علاقة بما حدث ...
شعرت بكثير من المرارة والأسى، وأصبحت في شبه ورطة. وقلت في نفسي ها قد أصابتني لعنتها فعلا هذه المرة.
ولا أخفي أنه داخلني خوف حقيقي، من أن أكون متهما بمساعدة "الإرهاب"، ودعمه. وهي التهمة الأشدّ بريقا، وخطرا في زمن العولمة هذا الذي تتداخل فيه المفاهيم وتختلّ الثوابت، وذلك ما يجعلني عرضة لإشكالات لا تعرف نهايتها، وقد تؤدّي بي إلى غيابات السجون ! وهكذا أصبحت أكثر حرصا على متابعة الحدث في شيء من الخوف...
في نشرة لاحقة، أتضح أن الفتاة تدعى ليلى، وأن صديقها، يدعى عبدو.
" أسفر الصبح لذي عينيْن ". ذلك هو صديقي هكذا قلت، ولكن من هي ليلى؟ ألم يكن اسمها ريما؟ صحيح أني لم أطلع على أوراق هويتها، ولكن عبدو قال لي: إن اسمها ريما، وكل المسافرين الذين اتصلت بهم أو سألتهم عنها أو سمعتهم يتحدثون إليها يعرفونها بهذا الاسم، هل تكون هي التي اخترعت لعبدو هذا الاسم، حتى يشيعه عنـها، أو هو الذي فعل ذلك، وجعلني أتوهّم أن ذلك هو اسمها؟ أيكون على اتفاق معها منذ البداية، أم أنها استطاعت تجنيده لصالح أهدافها في آخر لحظة؟ هل كانت قصائد الغزل، التي ألقاها على مسمعي، مجرّد عمل تمويهي لا غير، غايته أن يغرس في ذهني، انطباعات عنها بعيدة عن حقيقتها؟ هل كان ذكيا وماكرا منذ البداية؟ أم أن الأمور تطورت بينهما بعد ذلك؟ هل كان غبيا وقع في فخّ نصبته له عن قصد وتصميم مستغلة إعجابه الشديد بها ورغبته المتأججة في ربط علاقة بها ؟ هل كان جمالها ورقتها هما الطعم الذي ابتلعه و أوقعه في الشرك؟ ! لكن أتكون ريما سافلة إلى هذا الحدّ...؟
هل يكون ذلك هو سبب ما لاحظته من تغيّر في موقفه منها أثناء أحاديثي معه أخيرا؟ فبعد أن كان لا يمل الحديث عنها حتى كاد يقرفني بذلك يصبح متكتما بشأنها لا يذكرها إلا لماما...
كيف انقلب من النقيض إلى النقيض؟ لابد أن يكون في الأمر سرّ.
وتذكرت ذلك الشعر، الذي كان يردده على مسامعي، عند بداية علاقتي به وإثر كل حديث عنها وكيف كان يرفقه دائما، بزفرة مؤلمة حزينة:
عيناك يا ليلى حُقُولٌ خُضْرٌ وجِيَادْ
أمهارٌ تركض في مرجٍ
وتجتاز فلواتٍ و أبعادْ
عيناكِ ظلالٌ وبحارْ
أعماق اليمِّ تصْطَخِبُ
تيارٌ يدفعُ تيارْ
أمواج يعلوها زَبَدٌ
وقلوعٌ تهتزّ
يلهو بها إعصار في إثر إعصار
وأحيانا ينشدني :
( ليت لي ازميل "فدياس" وروح عبقرية
وأمامي تل مرمر
لنحتُّ الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالا مكبر
وجعلت الشعر الأصفر ثوْليْنِ
ثول يلزم الظهر وثول على الصدر تبعثر) (1)
وازدادت حيرتي وشكوكي. وتذكرت أني حين كنت أهمّ بمغادرة السفينة، وأنا أجهز حقيبتي على عجل، جاءتني ريمـا آخر لحظة بعد أن إختفت لمدّة طويلة !!، بديوان الشعر الذي استعارته مني، مع ظرف كبير مختوم، قالت لي: إنّ به مجموعة أوراق، أرجو أن تـحتفظ بهـا حتى أتصل بك، ثم ودعتني بحنـان، ورقـة، زادا
ــــــــــــــــــــــ
1- صلاح إبراهيم شاعر سوداني بتصرّف
إعجابي بها، وسببا لي بعض الأسى، والحزن، لفراقها. فقد ألفتها وأصبحت أكنّ لها مشاعر وأحاسيس، ليستدون الحبّ توهّجا. فرأيت في تسليمها هذه المذكرات لي، رغبة منها في الإبقاء، على علاقة ودّ كنت راغبا فيها بالتأكيد، وسعيدا لو تواصلت.
فهل كنت أنا أيضا أحمق وغبيا ابتلعت الطعم ووقعت في الفخّ.
لقد كنت يومها سعيدا بتركها مذكراتها لديّ وفكرت في بناء علاقة معها ربما تكون مفيدة وها أني الآن اكتشف أن مجرّد وجود هذا الظرف عندي دليل إدانة ضدّي.
قطع عليّ هذه الخواطر خبر عاجل يقول:
إحدى وكالات الأنباء تدخل عناصر جديدة على الحدث وترى فيه نتيجة صراعات بين مقامرين ومضاربين ، ثم تقول إن اختفاء الفاعلة المزعومة وأخيها من الباخرة التي كانا على ظهرها ليس سببا وجيها لتوجيه التهمة إليهما.
أحسست بشيء من الفرحة لهذا النبأ، وبدأ ينشأ في نفسي تفاؤل ما، كما يحدث أن نعيش في كابوس رهيب مدّة من الزمن ثم نستيقظ ونكتشف أن ذلك الرعب مجرّد أضغاث أحلام.
أوقفت جهاز التلفاز وقمت إلى حقيبتي افتحها وأخرج منها ذلك الظرف الذي فقد دفئه عندي وأصبح له دلالات أخرى.
أخرجته من الحقيبة، ولما فتحته وجدت به مصحفا صغيرا، وشريط فيديو، تأملتهما قليلا، ثم تركتهما جانبا، وتناولت الأوراق.
هي مجموعة يوميات متداخلة، مضطربة يختلّ فيها الترتيب الزمني، ويبدو أنها تكتبها أحيانا في حالات تأزم قصوى، كما أنها في بعض الأحيان، تبدو من خلالها في حالة هدوء وانشراح، تستجيب للحظات حلم وفرح، كأي فتاة. تقول في تقديمها ما يلي:
" ليس ما بين يديك أيها القارئ، رواية، أو قصّة يختلق أحداثها خيال امرأة تدّعي الكتابة، راغبة في التميّز عن الأخريات.
وهي بعيدة كلّ البعد، عن أن تكون إبداعا، غاية ما تطمح إليه كاتبتها، أن تنقل بأمانة، وقائع حدثت بالفعل، في مكان غير بعيد من هنا، وفي زمن مازال ساطع الحضور. مكان شهد نزول الرسالات السماويّة جميعا، وكان للأسف الشديد، وما يزال على خرائط كلّ مغامر حربي، يريد تغيير الجغرافيا... زمان تخلخلت فيه القيم، واختلّ توازنه، وسيطرت عليه نظرية الصدام، ولا مكان فيه للضعفاء...
وقائع عاشها أناس عاديون جدا، وبسطاء، يعشقون الحياة، ويحلمون كالآخرين بالأمان والحبّ. يطمحون إلى أن تكون لهم حياة بهيجة، في وطنهم هم أيضا.
لقد كنت أعتزم تسجيل ذلك بالقلم وحده، غير أني على قناعة، بأني رسّامة ولستُ أديبة، ولا أثق في قدرتي على شدّ القرّاء إلى حكايتي هذه، لأنها تكاد تكون نسخة من حكايات كثيرة، وقعت في بلدي عبر معاناة أليمة، حكايات مأساوية ومريعة، ولكن الناس للأسف الشديد، لم يعودوا يهتزون لها، ربما ألفوها لشدّة ما تكررت ولذلك قررت أن أرفق هذه المذكرات، بهذا الشريط. لأنه سوف يجعلك أكثر تفاعلا، مع الأحداث. إذا عرضته في الفيديو بالتأكيد، ولعلمي بأنك صحافي، وعلى علاقة جيدة بكثير من أصحاب كبريات الصحف والفضائيات، وتجيد الكتابة المقنعة– وبالمناسبة قد قرأت بعض مقالاتك الأسبوعية، وأعجبني تناولك العميق لفكرة "السوق والخيمة" التي عالج بها "كيسنجر" قضية الشرق الأوسط ذات يوم،– لكلّ هذه الأفكار التي كونتها عنك، فإني أطمح إلى أن تكون كريما معي وتكتب عن حكايتي وتنشر هذه الأحداث عبر الدنيا كلها لإنارة الغوامض فيها بذكر أسبابها العميقة ومنطلقاتها المتداخلة.
ثم تقول: " أعرف أنك ستنزعج إذا حصل يوما ما عقدتُ العزم عليه وسوف تلومني كثيرا، وربما تكرهني. ولكن أرجو أللآّ تتسرع في الحكم عليّ. اقرأ جيدا أوراقي، وتأمّل المشاهد بعمق، على شاشة جهازك في بيتك، ثم ضع نفسك مكاني. فكر طويلا، وحاول أن تتذكر أحداثا ووقائع، مرتبطة بالموضوع، من الأكيد أنك سمعت عنها، أو شاهدتها، وأنت على أريكة دافئة. - ما أجمل أن تتوفر لكم هذه الحياة الآمنة الوادعة وكم أنا سعيدة برؤيتكم هكذا، لكن هل تستمرّ ؟ – هل ستستمرّ حياتكم الآمنة هذه؟
مع شكي العميق فإني أتمنى دوامها من كل قلبي. - ثم بعد ذلك أنا سعيدة وقابلة لأيّ حكم تصدره أنت والآخرون. راضية تماما بذلك. أطلب منكم فقط كثيرا من الفهم، وأقلّ قدر من العطف والشفقة. اذكروا الحقائق كاملة... ضعوها أمام القراء والمشاهدين، بأمانة مطلقة وصدق شجاع وذلك يكفي.
ثم تقول: أنا أعرف أن منكم من يدين أفعالي، وربما الشرائع السماوية أيضا، فقتل النفس ليس أمرا هينا ومن قتلها، فكأنما قتل الناس جميعا. هذا من جملة المبادئ التي تربيت عليها، قناعة من قناعاتي. ولكن أقول لكم شيئا آخر، تعلمته في الكتب وأكدته لي الحياة بعد ذلك، وأصبح قناعة جديدة لي وهو:
" من لا وطن له، لا إله له" ومن تختلّ علاقته بوطنه، تختلّ علاقته بربه، ومن تغتصب بلاده، تغتصب كل المقدسات والشرائع في ضميره، ويمكن أن يمارس أفعالا تنتهك حقوق الناس، وتصادر حرية الآخرين، وتسبب لهم الكوارث والمآسي. عندما تسرق البسمة والأمن من الآخرين، فلا تنتظر باقات الزهور ولا بسمات الترحيب والفرح تقابل بها من الناس أينما لقيتهم، ذلك مخالف لطبائع الأشياء...
بين أوراق الكراس وجدت صورة شمسيّة بها شابّ في حوالى الثلاثين من العمر وطفل في الرابعة تقريبا في حديقة جميلة، على قفا الصورة وجدت هذه الأسطر.
اهتزّ كياني وتمزّق شيء ما في داخلي، فلم أعد أميل إلى الدعاء، فلا أعتقد أن الدعاء قادر على فعل أيّ شيء ولا جدوى منه. لو كان يجدي لو كان يستطيع أن يفعل المعجزات لتلوْت كلّ أدعية أهل الأرض. وتضرعت بأنبياء كلّ الديانات طالبة شيئا واحدا فقط:
أن تعودا إليّ لنعيش في بيتنا الصغير، لا نضمر عداءً لأحد. بل بالعكس نحاول زرع الفرح والابتسام في قلوب جمـيع الناس وعلى شفاههم ، عربا ويهودا، مسحيين ومسلمين وبوذا، ونزرع في حديقة كل بيت وردة، وفي كل حقل سنبلة قمح وشجرة برتقال وزيتونة ننذرها للسلام، السلام الذي اغتالوه في قلبي وفي قلوب أخرى كثيرة.
ألقيت الصورة جانبا وعدت إلى المذكرات بالكراس فإذا هي تقول:
والآن إليك بعض أحداث حياتي :
* ...حين بدأت أعي ما حولي، كانت أمي أرملة في العقد الرابع تقريبا. غير أن من يراها يظنها على أبواب الخمسين يلازمها حزن عميق تعاني حنينا وغربة: حنينا إلى مسقط رأسها وأحباء افتقدتهم، وغربة تحسّ بها في مقرّها الجديد.
قالت: إن أصلنا من قرية السمّوع. عندما كبرت فهمت ماذا تعني أمي: تعني أننا من الناجين من مجزرة السمّوع، وأن أبي لم يمت يومها. مات بعد ذلك بسنوات بانفطار في القلب.
سألت أمّي كيف انفطر قلبه؟
قالت :
كان ذلك مساء يوم لن أنساه، وكان أبوك مشوّش الأفكار غاضبا طوال ذلك اليوم لأن زوجته الأولى مطلقته قد اتصلت به تطالبه ببعض المستحقات وصارت بينهما خصومة حامية إثر ذلك، ولما طالبها بترك ابنه له طلبت منه أن يسقط حقه فيه، ثم غادرت غاضبة حاملة الطفل معها. سألتها في لهفة غريبة أكان لي أخ يا أمي؟
لم تجبني وواصلت سرد حكايتها قائلة:
وبقي أبوك طوال اليوم مغتمّا حزينا وعند الفجر فوجئنا بسيارات تحاصر كوخنا، وبجنود يدخلون البيت ويأخذون أباك.
كان حسب زعمهم متواطئا مع حركات التحرير، طلبوا منه أن يمدهم بمعلومات، وأسرار، عن ناشطين في حركات المقاومة فأبى... جربوا معه كلّ الوسائل، كلّ أنواع التعذيب، فلم تفلح.
ذات يوم فوجئت بهم يأخذونني إليه، في السجن. ولمّا تقابلنا،أنا وزوجي وثلاثة منهم، قالوا له:
إذا لم تعترف فإننا سـ(...) هنا أمامك ! قالوها بكل برودة دم. وكدت أصعق لما سمعت، وأخذت أصرخ، وتلقيت صفعات قوية على وجهي، ثم كمموا فمي، بقيت مرعوبة أشاهد ما يجري أمامي حتى فوجئت به يقول لهم:
سأعترف.
تطلعت إليه مليّا، كان مرهقا، طالت لحيته ونحل جسمه. عيناه فقط، حافظتا على بعض ذلك البريق الذي أعهده فيهما. ثم واصل:
سأقول لكم ما تريدون. اخرجوا هذه من هنا... أعيدوها إلى بيتها، وهاتوا أدوات التسجيل.
تطلعت إليه من جديد، فرأيت في عينيه انكسارا ينمّ عن القهر والعجز، يحاول أن يتماسك أمامي ولا يظهر ضعفه لهم.
قالوا: حسنا، سنخرجها من هنا، ولكن لن ندعها تعود إلى بيتها، إلا بعد أن تعترف.
أخذوني إلى غرفة مجاورة مظلمة، ترك بابها مفتوحا، وعليه حارس شاكي السلاح. ظلام من حولي يحيط بي من كلّ مكان. وظلام في نفسي يؤجّجه خوف رهيب. بقيت وقتا غير قصير على هذا الوضع، واقفة في الظلام يملؤني الخوف مما يمكن أن يكون حواليّ وقريبا مني. حالة رهيبة وتوقع لأشياء غامضة. وبدأت مخاوفي تزداد، فأنا في ظلام دامس لا أعرف أبعاده ولا ما فيه، قد يكون هاوية سحيقة أقف على شفاهـا، أو أسلاكا كهربائية عارية يمكن أن تصعقني، أو أي كارثة أخرى يمكن أن تسقط على رأسي بلا رحمة. أحاول بجهد يفوق طاقة البشر السيطرة على خوفي. كنت بين الحين والحين أسمع صراخا متأوّها، لا أدري أكانت أصواتا حقيقية أم هي أصوات مسجلة يستعملونها لكسر إرادة الصمود لدى زوجي، كما شاع عنهم في حكايات الناس. وبعد وقت قصير، سمعت صرخة هائلة، تصورتها صادرة عن الغرفة التي يوجد بها زوجي. تلتها حركة غير عادية: وقع خطوات سريعة ثقيلة أحاديث غير واضحة، حالة اضطراب وفوضى حسب تصوّري. ثم أخرجوني من هناك وأركبوني سيارة وقال لي أحـدهم : ماذا قلت له يا إبنة الكلب وبأي طريقة فقد أبىَ أن يقول شيئا ... وأخيرا قذفوا بي أمام البيت وأمطروني بشتائمهم وانصرفوا. ومن الغد تلقيت جثمانه... لا ريب أنه مات قهرا.
قالت أمي ذلك ثم تسربلت بثوبها الأسود الطويل وبكت بكاء عميقا مكتوما، كان جسمها يهتزّ لعبراته اهتزازا. ثم بعد برهة مسحت دموعها وأطلقت زفرة أليمة واحتضنتني بحنان تضمني إليها بعنف كأنها تريد أن تتمسك بما تعتبره آخر ما بقي من أسرتها... ثم مسحت دموعها واحتضنتني. كاللهيب كانت أنفاسها وحزنا مكابرا يعتصرها.
سنوات طويلة مرّت على حكاية أمّي، لكنها حتى الآن، مازالت تحاصرني بغيوم من القهر والكآبة.
يحكى أنّ نوعا من الخيول الأصيلة، حين يدركها التعب والإجهاد، تعمد إلى قطع وريدها بقضمة من أسنانها لكي تتنفس بحرية أكثر فتموت، وهكذا كان أبي جوادا أصيلا مات قهرا.
كبرت بعد ذلك، تنقلت بين المعاهد، واتخذت لي أصدقاء، وصديقات، ومازالت حادثة موت أبي، تستيقظ أحيانا حارقة الألم، ولكني مع ذلك، حاولت نسيان الماضي، وقررت الاتجاه إلى المستقبل باستمرار.
في الكلية، أقمت علاقة ودّ مع أستاذة شابّة، حاولت إزالة ما علق بنفسي من ترسبات طفولتي، علمتني الرسم، واحتضنتني أنا وأمي مدّة من الزمن، كانت تزورنا فيها مع زوجها وابنهما الصغير وكانت أمي تهيئ لهما في كلّ زيارة حليبا طازجا، وبيضا طبيعيا، وبعض أرغفة بلدية كانتتجيد إعدادها. وكانت أستاذتي لا تبخل علينا بشيء، تدعمنا دعما حقيقيا لولاه لضعنا. ووجدت لديها حنانا صادقا، ساعدني على تجاوز فجيعة قتل أمي في هجوم مستوطنين متطرفين بعد ذلك. وجعلتني أتماسك قليلا، وأحافظ على بعض توازني، وترميم انكساراتي، حيث أخذتني للإقامة معها في بيتها... ولقد سألـتني يومـا أليس لك أقـارب يا ليلى ؟ قلت لها : لا أعرف أحدا غير أن أمي قد ذكرت لي يوما إن لي أخا من أبي ولكن لا أعرفه ولا أعرف أين هو الآن.
أحببت أستاذتي هذه كثيرا وبدأت بفضلها بعد سنتين، أنسج في داخلي بدايات أمل، وحلم بالمستقبل كأيّ فتاة عادية. ومازالت تلك المرأة، حتى هذه اللحظة، هي وزوجها، وولدهما "مكسيم" إلى جانب قلة قليلة أخرى، أعزّ ما عرفت من أناس، وأحسن ما اتخذت من أصدقاء.
* ....في السنة التي سأتخرج فيها، غادرت أستاذتي البلاد ورحلت. أحسست بألم بالغ لغيابها. ما أقسى الشعور بأنك تخلّفت وحدك بينما الأحباب والأقارب يرحلون تباعا بالموت أو بالغياب. يومها تستحيل الأحلام كوابيس مرعبة، والآمال سرابا في سراب. وهكذا في غمرة الإحساس بالفراغ الذي خلّفه رحيل أستاذتي، وجدتني أفكر جديا في البحث عن أخي وزوجة أبي الأولى. ترى أين هما ؟ كيف أخي ؟ أين يكون؟ ماذا فعلت به الأيام؟ لو تمكنت من معرفة مقره لاتصلت به وارتميت بين أحضانه احتمي به ... يا لها منفظاعة أن يفعل الزمن بنا كل هذا، فإذا الأخ لا يعرف أخته،والأخت تحاول البحث عن أخيها فلا تعرف من أين تبدأ، ربما التقيا مرات، ربما تشاجرا، أو تبادلا عواطف معيّنة ولكنهما لا يعرفان بعضهما البعض . كلاهما غريب عن الآخر، كلاهما وحيد بعيد عن الأضواء، لا يعرفه أحد ولا يسأل عنه أحد.
تمرّ عليّ الأيام، تتغير، يتبعثر الحلم، ويتكسر، وأظلّ أنا عشّا حزينا مكسوا بالظل لا يأتيه غير الصقيع بينما الشمس في أوج سطوعها كما قالت امرأة حزينة مثلي.
ذات يوم كنت أمام أحد المعابر المغلقة أحاول أن أجد أي وسيلة أقضي بها على الوقت ومرارة الانتظار فالتقيت بخديجة...
كانت امرأة قد وخط الشيب رأسها، سمراء البشرة طويلة القد، متواضعة الملابس، غير أن بقايا ملاحة في وجهها مازالت تجالد كرّ الأيام.
لذّ لي الحديث معها، فرحنا في ثرثرة طويلة بدأت بها أحاول معرفتها ومن تكون وما هي أسرتها، فإذا بي اكتشف أنها زوجة أبي الأولى، تلك التي وردت عرضا في إحدى حكايات أمي، وإذا بي أعود إلى تفحصها من جديد بشيء من التعجب والاستغراب كأني غير مصدّقة ما سمعته منها، ثم عاد لي وعي فضممتها وقبلت وجنتيها قائلة لها:
أنت إذن أم أخي الذي أعياني البحث عنه.
اتسعت عيناها من الدهشة ثم سألتني في استغراب قائلة:
من أنت ومن هو أخوك ؟
قلت لها:
أنا فتاة كان من الممكن أن تكون ابنتك! أنا ابنة زوجك الأوّل.
عند ذلك احتضنتني لحظة ثم قالت وقد أبهرتها المفاجأة:
يا الهي أنت إذن ابنته...
حين هدأت قليلا، سألتني عن أحوال أمي وأحوال أبي، ولما علمت بموتهما ساءها النبأ وذرفت دمعة حيرتني كثيرا.
كنت شبه متأكدة من أن تلك الدمعة ليست لأجل أمي، فهي من أجل أبي بالتحديد. أتراها بقيت تحمل نحوه مشاعر الودّ حتى بعد هذا الفراق الطويل؟ وبعد تلك المشاكل؟ أيظل الرجل الأول في حياة أي امرأة محتفظا في أعماق وجدانها بوهج الحنان والحب؟... أصحيح أن الحبيب الأول لا ينسى؟...
كنت متلهفة لمعرفة أخبار أخي فلم أترك لهذه الخواطر أن تسرح بي بعيدا، فقلت لها: ما أخبار أخي؟ كيف هو؟ ماذا يشتغل وأين يقيم؟
في انكسار حزين، وبعد فترة صمت طويلة، قالت:
يعلم الله يا ابنتي.
كيف يا خالتي؟
- بعد زواجي الثاني بسنوات أخذه أخواله إلى يافا وفي ظلّ الوضع الذي نعيشه تمزقت بيني وبينه الصلات سمعت انه عمل بحارا مدة من الزمن ثم انقطعت عني أخباره. لا أدري هل اغتاله البحر أم العدوّ أم لا يزال على قيد الحياة؟
عند هذا الحدّ من حديثها أحسست أن مرارة شديدة تحاصرني، وان براعم الأمل التي نشأت قبل حين قد ذبلت قبل أن تتفتح. وعاد اليأس يحاصرني من جديد، قلت لها: أيّ زمن هذا يا خالتي لماذا نحن وحدنا تقريبا يعاملنا بهذه الضراوة الحاقدة...
- فتح المعبر وافترقنا، غابت عني وسط الزحام. بعد أن أعطتني عنوانها.
وهكذا عاودني اليأس وأظلمت الحياة في نظري من جديد. غير أن شمسا دافئة هاجمتني أشعتها فجأة، وطردت عني الصقيع والظلام. فقد وضعتني الصدفة من جديد، وجها لوجه مع سرحان ! تقاطعت أقدارنا فالتقينا من جديد. كنت قد تعرفت عليه وأنا مازلت مراهقة، لشهور فقط ثم افترقنا. ولكن شيئا ما منه، سكنني ولم يغادر، ويوم أن فقدته بقيت لشهور طويلة في شبه ضياع، لقد منعني الحياء من السؤال عنه وتسقّط أخباره لأن ما بيني وبينه يومذاك مجرد ميل مني وانجذاب إليه، لا أدري إذا كان هو يحمل نحوي مثله أو يحسّ به حتى مجرد إحساس. اختفى عني ولكن كنت أجده في خيالي كل يوم، بل كل لحظة التقي به أحاوره وأسعد بالحديث معه، كان شديد الحضور في كياني دائما أراه: في القاعة، في المشرب، في المكتبة، في الساحة وفي كل مكان... ولكن لا بدّ للأيام أن تفعل فعلها ولو كان قليلا... فقد بدأت تخمد توهّج الجمر شيئا فشيئا، وبدأت أنسى. وإذا به يظهر فجأة، وإذا الحلم والأمل يشرقان لي من محياه من جديد، يطلعان عليّ كزخة مطر فجائية فيخضرّ لها كلّ يابس في ...
لم ينـس هو أيــضا. وكـم أسعدني ذلـك، يا إلاهي...فهل كان سرحان قدري؟ ... هل كان شمعة أخيرة تنير ليلي حتى طلوع الفجر؟...
وهكذا رحت أؤثث به أحلامي، وأزخرفها. علقت عليه كل آمال المستقبل. أحببته بعمق، وأصبح هو وحده، فوارة الظمأ، ونبع الارتواء. كان الحبيب وكان الأخ وكان الأخت والأسرة والوطن جميعا. بدأنا نصنع مباهج حبنا الصغيرة، ننشئ براعم علاقتنا، بأشياء جميلة حلوة، ارتعاشات دافئة، هناءات سعيدة، هدايا بسيطة متواضعة، قبلات مقتضبة مسروقة على عجل، من الزمن والآخرين كأي شابّ وفتاة في كل بقاع الدنيا. كان حضوره في كياني ساطعا، ينقذف كل يوم أبعد فأبعد، إلى أعماق الوجدان… ويوما فيوما كانت ثقتي به تكبر وتزداد رسوخا وازداد عطفا عليه وتعلقا بما يبديه نحوي من مواقف تنمّ عن الحبّ والشهامة والإخلاص، فينمو في داخلي شعور بالتفاؤل والثقة بالنفس وحبّ الحياة.
كنت أحسّ بأن ثمة شخصا يهمه أمري، ويسعد لسعادتي وفرحي، وعليّ أن أجدّ وأكدّ لأبلغ درجة التفوّق أو حتى الامتياز من أجله هو قبل كلّ شيء آخر. فلا شكّ أن أحبابنا ومن يهمهم أمرنا يزدادون فرحا لانتصاراتنا مهما كانت صغيرة. ونشعر نحن بأننا محبوبون أكثر، حين نهيئ لهؤلاء الأعزّاء شيئا من البهجة والأمل.
وهكذا كان سرحان حافزا وحيدا ولكنه قويّ يدفعني إلى التفاؤل والأمل والثقة بالمستقبل متجاوزة ما في حياتي من إكراهات ومنغّصات ...
ثم تقول في مكان آخر:
بعد الزواج، اكتشفنا تشابه أقدارنا في كثير من الجوانب. كان كلانا مكسور الأحلام مهشم الآمال، كان ابن شهيد هو أيضا، مفجوعا في أبيه، تجرّع مرارة اليتم، والقهر. فآلينا على أنفسنا، أن ننسى الماضي، وأن نجرّب البسمة للأيام، على تجهّمها، وقتامها الحالك، وأن نصمد في وجه الأعاصير،ما أمكننا، انفتحنا على واقعنا…هادنّاه عن عجز أو تسامح لا أدري، المهمّ أننا ارتضيناه على مرارته، واستطعنا الحصول على عمل لي ولسرحان، وما أصعب أن تحصل على عمل محترم، إذا كنت تحمل مواصفاتي ومواصفات زوجي في هذا البلد ! كانت لنا صديقة يهودية من النمسا، وعن طريقها استطعنا الحصول على عمل. لقد تدخلت لدى بعض أصدقائها، وساعدتنا، وما نسينا ذلك لها يوما ولن ننساه.
خلنا أن الحياة قد ابتسمت لنا، وكدنا ننسى فجائعنا. وبدأنا نحلم كالآخرين، بمستقبل هادئ بعيدا عن الأعاصير والزوابع. وكان لسرحان قطعة أرض صغيرة، ورثها عن أبيه على ربوة عالية، فأقمنا عليها بيتا صغيرا: غرفة، ومطبخ، ومرافق لا غير، في أوّل الأمر. ثم شرعنا أنا وسرحان، في إقامة حديقة صغيرة حوله، اخترنا أشجارها بعناية ودقة. بسواعدنا كنا نقوم بذلك. بلمسة الشخص الهاوي وسعة صدره وصبره تحدوه رغبة في أن يجسّد على الطبيعة ما يتمناه ويطمح إليه بالقدر الذي تسمح له به إمكانياته. ويوما فيوما، أصبح ذلك البيت الصغير، كل وطننا كل ما نملك على وجه الأرض.
كان جميلا رائعا، بذلت كلّ جهدي، وذكائي، لأجعل منه لي ولسرحان جنة مريحة، شاطئ سلام " ترتاح فوق رماله الأعصاب".
كنّا نسهر في ليالي الصيف الجميلة تحت الدالية على ضوء القمر.
حتى في هذا العالم القاسي يكون دائما جميلا ومحبوبا سطوع القمر في ليالي الصيف.
وهكذا كنت أصنع من وراء الهموم اليومية عالما مؤنسا يسعد فيه سرحان وينشرح.
وحين أنجبت فوازا، اكتملت سعادتنا. كان بهيّ الطلعة، كأجمل ما يكون طفل أو هكذا كنت أراه. وكانت فرحتي لا حدود لها.
كان يعترينا أحيانا شعور بالذنب، لأننا هادنّا واقعا غير مقبول، كدنا ننسى قضية وطننا، واستسلمنا لأحلامنا بينما الوقائع اليومية من حولنا شديدة الهول عميقة الرعب ولكن ماذا عسانا نفعل؟ علينا فقط أن نتحسّر في هذا الزمن لا بسبب كلمات الأشرار وأفعالهم المفعمة بالكره وحسب بل بصمت الأخيار المفزع أيضا.
ثم تقول في مكان آخر
* ...كنت في مطار "فرنكفورت" في انتظار الطائرة التي ستأخذني إلى الوطن، إلى سرحان، وفواز. كان شوقي لهما كبيرا. قبل يومين، حين اتصلا بي في الهاتف، فجرا في كياني، كثيرا من الفرح والحنين، سعدت كثيرا لصوت فوّاز الصغير. كان كأنه أغرودة بلبل في صباح ربيع، في حقول الخليل. منحني إحساسا بالرّوعة والفرحة، وحبّ الحياة. أما صوت أبيه، فقد رماني على تخوم أنا وحدي أعرف أبعادها، غلبني الحنين إليهما. فوّاز يريد دبّا أصفر، أما سرحان فكان يريد أن أحمل إليه أمطار كل المواسم، وبذخ كل الحقول، هكذا قال وفهمت ما يعني... وددت لو تقلع الطائرة الآن، وأتمكن من احتضانهما اللحظة بعد مدة من الاغتراب. ولكن مازال بيني و بين الأماني، وقت ليس بالقصير.
تطلعت إلى الساعة مرات عديدة، شكـكت أنها توقـفت، أو اعتراها خلل ما، ولم يكن ذلك بالطبع صحيحا، أنا هي المستعجلة، التي غلبها الشوق، ولم تعد تطيق صبرا. رقص القلب حنينا وشوقا إلى وطن وأحباب وتاقت النفس لمعسول الأماني فطال الزمن، وتثاءبت الساعات، وصارت بطيئة مجهدة كأنما كانت تمسكها سلاسل تعطل دورانها.
قررت تبديد الوقت بأي طريقة. وحين كنت أتمشى في المطار، وجدت سيدة شابة على ملامحها قلق وترقب هي الأخرى. عرفت أنها غريبة عن هذه الديار. واضحة هي وجوه الغرباء في كل بلاد. شيء ما يجعلها ثقيلة الحزن عميقة الاكتئاب، مهما حاول أصحابها إظهار العكس، كانت تنتظر طائرة لتلتحق بزوجها، بعد أن سُمِح لها بالالتحاق به أخيرا، ولا تدري أي أقدار تنتظرها هناك، في ذلك البلد الذي تتجه إليه، وذلك ما يجعلها تحسّ بألم ممزقة بين ولاءيْن، ولاء للزوج، وولاء لوطن وأحباب، وذكريات عمر. لمّا لمحتني عرفت أنني غير أوروبية تقدمت مني في تهيب أول الأمر، ثم انشرحت وفتحت لي قلبها وشعرت بشيء من الاطمئنان. تعارفنا وقضينا وقتا غير قصير ثرثرنا فيه بأحلامنا وآمالنا وخيباتنا أيضا. كان يعتريها خوف من المستقبل، تشرد بين الحين والحين تغشيها غلالة حزن خفيف.
حاولت تخفيف مخاوفها وزرع بذرة ولو صغيرة من الأمل أمامها، تزين لها المستقبل وترغبها فيه قلت لها:
" كل مكان ينبت العز طيب"، ولم أكن صادقة بالطبع، فلا عز ينبت للناس في غير أوطانهم، مهما كانت كفاءاتهم. ولكني قلت لها:
ما دام زوجك في انتظارك، حبيب العمر يترقبك هناك، فلماذا تخافين؟ عليك أن تكوني سعيدة، وفرحة، خاصة وأنت تحملين مؤهلا علميا محترما، سوف يسهل اندماجك في تلك البلاد. وربما تجدين فيها فرصتك فتبتسم لك الأيام.
قالت لي :
نحتاج دائما، لكي نشعر بفرحة الحياة، إلى ما هو أكثر من الحبّ والحبيب. الحبّ وحده، طائر حزين، معطوب الحنجرة، مكسور الروح، لا يهب لحن الفرح الذي نبحث عنه. لا يمنح الأمان العاطفي المطلوب، حتى نشعر بحبّ الحياة، ونشارك في صياغة أفراحها. وفوق ذلك، يحتاج كلّ طائر، لكي يغني، إلى غصن آمن يستقرّ عليه، وفضاء حر، تسرح فيه أحلامه...
آلمني منطقها وساءتني نبرة الحزن في عباراتها فتأسفت لحالها، غير أني رغبة في تهدئتها حاولت أن أصوّر لها المستقبل وكأنه طريق مسيّج بالأزهار والورود ثم قلت لها : حياة كلّ الناس لا تخلو من منغصّات وعلينا أن نتحلى بالصبر، وننظر إلى الأمام آملين حياة أفضل ومستقبلا أجمل...
دخلنا بعد ذلك، مغازة ملحقة بالمطار، تبيع التحف، وبعض الهدايا التذكاريّة، ولعب الأطفال، أعجبني دبّ أصفر، متقن الصنع، قلت : ليكن هذا هدية لفوّاز، أما سرحان، فقد كنت اشتريت له صدارا صوفيّا رائعا، أخضر اللون، لأني أعرف مدى حبه للّون الأخضر المشرب بصفرة خفيفة. الأخضر الزيتي الحالم، كان كلّ هواه، في الملابس وفي الطبيعة على حد سواء. كان يقول لي دائما: أحبّ لوحاتك، لأنها جميعا تتعشق اللون الأخضر، لم أشبع بعد من خضرة عينيك، فامنحيني ربيعها الخالد في كلّ شيء أراه، كوني لي حبيبة ووطنا، تهب فرحا وأمانا، وتحمل سلالها كلّ بذخ المزارع.
هكذا كان يقول لي في لحظات صفائنا وسعادتنا، وفي عينيه يركض مهر عربي أصيل، نحو فرح ما ... ما أروع سرحان، نبع حنان ووفاء لا ينضب ! وأحسست أني أحبه أكثر...
الفصل الخامس :
كنت مأخوذة بهذا الحلم، وأنا أسير إلى جانب تلك السيدة، في صمت وغياب، تراودني أفكار عديدة عن تجميل حديقة بيتي وإضافة حجرة صغيرة لفواز يستقل بها عندما يصير شابا، ووجدتني ممتلئة بهجة وتفاؤلا. وفجأة لمحت "ناتاشا" أستاذتي الروسية، وولدها مكسيم، وزوجها، وإذا بها تلمحني هي أيضا وتهجم عليّ، في رعونة شوق جارف، فتحتضنني وتغمرني بالقبل، قبل صادقة، وليدة شوق وحنين لأحباب فترة من العمر، كانت باذخة الأحلام. سعدت بها كثيرا وتحدثنا طويلا:
ذهب مكسيم وأبوه إلى كشك صغير يبيع الصحف والمجلات والهدايا التذكارية والبطاقات البريدية، فأخذتها وجلسنا الثلاثة أنا وهي وزينب، وكنت في غاية السعادة. تحدثنا طويلا، نفضناالغبار عن ذكريات بدأ النسيان يحاول أن يسدل عليها أستاره الكثيفة...
رجع مكسيم إلى أمه يستشيرها في أمر ما ثم عاد إلى أبيه، ولاحظت أنه قد أصبح شابا، يكاد يكون مكتمل الرجولة، فقلت لها:
يا إلاهي لقد أصبح مكسيم رجلا، وأنت مازلت شابّة.
قالت لي، وهي في منتهى السعادة والفرح: أغلب الذين لا يعرفونني، لا يصدقون أنه ابني، يتصورونه أخا أو صديقا، وثمة واحدة بلهاء ظنته ذات يوم عشيقا لي، وراحت تضحك، في فرح طفولي، كعادتها دائما. فقد كانت امرأة رائعة، تدخل البهجة على محدثها مهما كانت همومه، لا تبالي كثيرا بأوجاع الأيام...
سألتني عن أحوالي فقلت:
جيدة حتى هذه اللحظة، تزوجت من سرحان، وبنينا بيتا صغيرا في بلدتنا وأنجبنا ابنا...
كم عمره؟ ما اسمه؟ حدثيني عنه.
هكذا قالت واحتضنتني من جديد، تعبيرا عن فرحتها. ووجدتني أضمها إلي بشدة أنا أيضا، وأضغط صدري على صدرها، وإذا بدموع تطفو من عيني، لقد كانت لي هذه المرأة أما في زمن فقدت فيه حنان أمي.
سألتني بعد ذلك عن بعض أصدقائنا القلائل قالت:
أتذكرين " سيرين " تلك الفتاة اليهودية، ذات القوام الرشيق، والنمش الخفيف في وجهها، التي كانت صديقة لنا تتميز بانفتاحها، وحبها للآخرين مهما كانت أجناسهم. مازلت أذكر بسمتها الرائعة، التي ترتسم على محياها باستمرار، كدعوة دائمة لفسحة فرح وسعادة في زمن صعب...
قلت:
أذكرها جيدا، سيرين لا تنسى أبدا، ولكن للأسف، انتهت حياتها بشكل مأساوي فاجع. استفهمتني في ذهول فقلت لها:
لقد أحبت شابا فلسطينيا، حبا عميقا، ووقف أهلها جميعا ضدها، ولكنها أصرت على ذلك متحدية جميع أسرتها، وهربت معه. وبعد شهور توفي زوجها في حادث غامض وانتحرت سيرين في اليوم التالي، لا أدري، هل كان ذلك مجرّد صدفة، أم أن أهلها دبروا كل شيء.
ساءها النبأ جدا، فجلّلها صمت عميق، لمدة من الزمن، ثم قالت:
يا للمصيبة... في كلّ زمن رديء، الأخيار والطيبون، هم أولى الضحايا دائما. ثم سألتني عن شكري الأطرش، ذلك الشابّ المتدين الطيب، الذي كان دائما يرفع شعار تآخي الديانات السماوية، ويدافع عنه بحرارة.
قلت لها:
سمعت أنه كان ضمن أولئك الذين كانوا يؤدون الصلاة في المسجد الأقصى، فأطلق مستوطن النار عليهم، وقتل منهم العشرات كان بينهم شكري الأطرش...
تأسفت طويلا ثم قالت:
عجيب هو بلدكم يا ليلى، كان أحسن الأوطان، فاستحال أسوأها. لقد زاره جدي حاجا قبل الحرب العالمية، وأقام فيه مدة من الزمن طويلة، وحكى لي عنه كثيرا إضافة إلى ما قرأته عنه في الكتب، ولكن شتان بين تلك المعلومات، وبين الواقع الذي عشته ورأيته، ومازلت أراه وأسمعه...
كان بلد الأمن والتسامح، وصار بلد التعصّب والعنف. ترى أي لعنة جعلت من بلد الرسالات، بلد العصابات؟ أين رومانسية الشرق، وسحره، وتسامحه وصلواته؟ كان المسلم واليهودي، والمسيحي ومن لا دين له، إخوة في السراء والضراء، يتزاورون في المناسبات والأعياد، يقيمون أفراحهم معا، يتبادلون ودّا، واحتراما، حقيقييْن، فكيف تغيرت الأمور بهذا الشكل...؟
لم تدم سعادتي بها طويلا، فقد أزف موعد رحيلها، فودعتني بعد أن سلمتني عنوانها وانصرفت، وكنت قبل ذلك، قد عرّفتها بزينب، تلك التي كانت معي قبل مجيئها، والتي تنوي الالتحاق بزوجها في "كوبنهاقن" وطلبت منها مساعدتها فهما تقصدان نفس البلد.
ووجدتني وحيدة في المطار من جديد، أحلم، وأتوهّـم، وأتمنى.
لقد أعجبتُ بأسرة أستاذتي الصغيرة، أسرة شابة، يكاد من لا يعرفها، يظنها مجموعة أصدقاء. تمنيت أن أكون أنا وفواز وسرحان مثلهم ذات يوم.
لذّ لي هذا الحلم، واتسع، حتى أصبح في مساحة وطن. ولا أدري كم من الوقت قضيته سابحة في فضاءاته الوردية. ولم يوقظني منه إلا مكبر الصوت يدعو إلى الالتحاق بالطائرة. فانطلقت بسرعة، يدفعني فرح غامر، للوصول إلى الخليل واحتضان فواز وسرحان والاستراحة في بيتي الهادئ الجميل.
في الطائرة عدت إلى الحلم من جديد، فضاءات كثيرة أنشأتها في نفسي، وأثثتها بجميل الأماني، والأحلام، والمشاريع. وتذكرت أني ذات يوم استيقظت باكرا، فسمعت في خميلة قريبة من نافذتي، جوقة عصافير مستغرقة في الزقزقة والتغريد. أعجبتني سانفونية الفجر هذه التي تعزفها الطيور، فكرت في تسجيلها قلت لو أتمكن من وضعها في شريط فتظلّتحمل لي روعة الصباح وجماله وسحر أصواته أينما كنت، فأخذت جهاز التسجيل وفتحته، ثم تركته يستقبل هذه المعزوفة الرائعة، ثم عمدت إلى أغنية لفيروز:
"ما أحلى الخرجات عشي والدنيا الفوق عصافير،
دنيا جنائن ورد وفل وفراشات تطير.. "
وحاولت تقطيعها ومزجها مع معزوفة العصافير. نجحت التجربة تماما. فكنت أحيانا أسمعها لفواز ابني، فينتشي، ويضحك سعيدا وأسعد أنا بذلك. هكذا كنت في الطائرة عائدة إلى الوطن، أحلم بأشياء كثيرة حلوة ولم أكن أتصور أن كارثة حقيقية، كانت في انتظاري.
حين لم يعترضني سرحان مع فواز في المطار، استغربت الأمر وازدادت مخاوفي وتذكرت فجأة حلما مرعبا رأيته البارحة وتشاء مت منه كثيرا:
"كان لي حمامتان بيضاوان يعيشان معي في البيت ألفتهما وألفتاني حتى أصبحت أناديهما فتقبلان عليّ وتمارسان أحيانا ألعابا شيقة، تتناقران وتتقافزان أمامي فأسعد لذلك كثيرا. رأيت في الحلم كأني كنت في البيت أجيب عن الهاتف فسمعت طلقة نارية خارج البيت، لكن قريبا منه. تركت الهاتف وخرجت أعدو مذعورة، وإذا بإحدى الحمامتين صريعة لا حركة لها، والأخرى تتخبط مكسورة الجناحين، ورأيت الرجل فعدوت إليه في منتهى الغيظ ووقعت معه في خصام ثم عراك، ولكني لم أقدر عليه فافتك مني خاتما جميلا كنت أعجب به، وسوارا كان هدية من سرحان. ولما أفقت من حلمي وجدت مخدتي مبللة بالدمع فاستغربت ذلك ثم بعد لحظات تذكرت أحداث الحلم وبحثت عن الخاتم والسوار فإذا هما لدي لم يفتكهما مني أحد فشعرت بفرح طفولي للحظات، لكن إكتئابا غريبا هاجمني بعد ذلك. وحين وصلت منزلي كانت الكارثة:
وجدت بيتي الصغير، عشّي الجميل، أمل العمر كله، ابتلعه الجحيم في لحظة. لقد نسفوه، بدعوى إقامة مستعمرة لمهاجرين جدد. صادروا الحلم، والأمل، الحاضر والمستقبل، قتلوا الأمان في أعماق نفسي، هاهو أملي الأخضر الحالم، قد اغتالوه. أصبح كومة من أحجار، وإسمنت، وحديد، يتوهج قرميده المهشم الحزين، وينزف حمرة بلون الدم، وأنا حياله أحدق في المجهول غبية بلهاء عاجزة".
وكما صُدِمت صاحبة المذكرات، لهدم بيتها، صُدِمتُ أنا أيضا. بقيت مدة من الزمن غير واع تماما لما قرأت، ثم داهمني إجهاد فظيع، فتمددت على السرير، ودخنت سيجارتين بانفعال وعصبية، ثم أخذت الشريط ووضعته في الفيديو وشغّلت التلفاز.
ظهر على الشاشة، منظر البيت الصغير، الذي تحدثت عنه، والذي قالت إنها استعملت كلّ خيالها، وذكائها، ليكون رائعا، يمنح الراحة والسعادة. والذي استعارت للتعبير عن مشاعرها نحوه وحبها له، ذلك المقطع الرائع من قصيد لنزار.
وإنه لجميل حقا تحتضنه تلك الربوة باخضرارها المتوهج تظلله أشجار باسقات يتألق قرميده الأحمر، خلال خضرة الأشجار، رائعا ساحرا. يبهج النفس ويمنحها فرحا وسعادة. هكذا يبدو من بعيد على سفح جبل أخضر.
في مشهد آخر، يظهر البيت من الداخل، وسط الحديقة الصغيرة، ذات الأشجار الباسقة.هناك دَوَالٍ وأشجار متسلقة وعرائش ياسمين وكروم راحت تعانق النوافذ وتنشر عطرها خلال الغرف، تتدلى عناقيدها ناضجة شهية كثريات الذهب. ثمة امرأة شابة، تلبس سروالا، ضمت شعرها الطويل في ظفيرة واحدة، تباشر العمل وتغني... تقيم أحواضا للأشجار، وتسقيها، وتشذب بعض أغصانها. بجانبها طفل صغير، في الثالثة تقريبا جميلٌ نظيف الملابس. يتلهَّى بإلقاء حجارة صغيرة في أحواض الماء، ونراه يسعد للصوت الذي تحدثه الحجارة، والطشيش الذي يتصاعد من الماء. فترتسم على محياه بسمة جميلة طاهرة، ولكن الأم تنهره بلطف وتحذره من تلويث ثيابه بالطشيش الملطخ بالطين، فينصاع لأمرها حينا ثم يغافلها ويعود إلى صنيعه. وفي الناحية الأخرى، نرى رجلا تحت عريشة عنب، يشذب أغصانها ويجعل لها منصة بأعواد القصب، ونسمعه يصفّر لحنا، يعبر عن البهجة والسعادة. ثم يتوقف عن العمل، ويذهب إلى حيث الطفل وأمه ويشرع في ملاعبتهما معا...
في حيّزٍ آخر، ظهر مشهد ذكرني بمأساة "سيزيف" في الأسطورة اليونانية الشهيرة. هو عبارة عن لوحة، ترسمها المرأة صاحبة المذكرات:
في سفح جبل أخضر، وتحت سماء صافية شديدة الزرقة توزعت في جنباتها قطع صغيرة من سحب بيضاء ترتسم ظلالها بين الحين والحين على ما انتشر في الحقل من بذخ الربيع أعشابا وأزهارا. ثمة شجيرة زيتون، وارفة الأغصان، مزهرة، ولكن صخرة كبيرة قد وقعت عليها من الجبل، تكاد تهشم كلّ أغصانها، وتخفيها، ومجموعة من الأطفال يحاولون زحزحة الصخرة عن شجيرة الزيتون، ويبذلون في ذلك جهدا كبيرا: يتصبب العرق من جباههم تلوثت بعض أجزاء من ملابسهم بالطين، وتمزق بعضها وتلاحظ بينهم من جرحت بعض قوائمه، وهناك من وقعت رجله تحت الحجرة وتكاد تطحنها. ولكنهم يبدون في دفعها صلابة وإصرارا شديدين. ويشيرون إلى رفاق لهم كي يهبّوا إلى نجدتهم، ومساعدتهم في العمل، وتلاحظ من آثار أقدام الأطفال، أنهم استطاعوا أن يبعدوها قليلا، ولكنها عادت إلى مكانها. المشهد لم يكتمل بعد فالرسامة مازالت تعمل، نراها واقفة أمام المرسم، تحمل الريشة بيد، وبالأخرى آنية الأصباغ، وتتأمل ما صنعت، وابنها قريب منها، واقفا يشير بإصبعه الصغير، إلى شيء ما في الصورة. المربك في اللوحة كلها ما عمدت إليه الفنانة من رسمها لرجل جالس غير بعيد عن الشجرة يستمع إلى مذياع صغير، يدخن نارجيلية مولّيا ظهره للأطفال غير عابئ بما يفعلون، يتطلع إلى سرب من طيور بعيدة غير معروفة الجنس تعبر خط الأفق الأزرق البعيد.
كانت المشاهد توحي بقدر غير قليل من السعادة الغامرة، التي يمكن أن تتمتع بها الأسرة الشابة، داخل بيتها الصغير الأنيق، ولكنك لا بدأن تتساءل في مرارة: أين كل ذلك الآن ؟ وتحسّ إثر ذلك ولا شكّ، بمشاعر من الألم، بالغة العنف...
أوقفت جهاز العرض وأنا على حافة الغثيان، وأحسست أني أكاد أختنق، فتحت النافذة الكبيرة، في بيتي بالطابق السابع من النزل، هروبا وهميا من جو غرفتي، الذي سممته الأحداث والمشاهد، التي قرأتها وشاهدتها، تدفقت في الغرفة نسمة خريفية عطرتها نباتات الإكليل والزعتر التي تكسو سفوح الروابي القريبة من هنا. وتطلعت إلى بعيد، حيث يوجد جبل أخضر غسلت أشجار غاباته، زخات مطر خريفي مفاجئ، فظهر على سفحه، منزل صغير، من طابقين سطحه من القرميد الأحمر، تنعكس عليه أشعة الأصيل، فتزيده تألقا وجمالا. ووجدتني أتخيل حياة أهله. جميلة هي الحياة على السفوح الخضراء ، تسبيني وتأسر لبي، لقد كان من أعز أحلامي أن يكون لي بيت ذات يوم بعيدا عن ضوضاء المدن بين قمم خضر تكللها الأشجار الجبلية الفواحة والأعشاب.
غير أن هذه الخواطر الحالمة مرت سريعا كأنما طردتها عواصف عنيفة ووجدتني أعود مجددا إلى أحلام ليلى وحياتها في بيتها فإذا بي أتصور هذه البناية الجميلة التي أراها بعيدا على سفح الجبل تنسف وتتطاير غبارا وشظايا فتغدو السعادة بؤسا، والفرح الغامر مآسي وعذاب، حين يتشرد أطفال وصبايا وشيوخ وتموت أحلام وأمان .
كنت أستاء كثيرا لمشاهد انفجارات المباني في أفلام الحروب. أحسها أليمة مروعة. ولكن أشدّ منها ترويعا، وإيلاما للنفس، نسف بيوت الناس من أجل أفكارهم ومواقفهم، عمل يمارسه الإنسان في كامل وعيه بإصرار وبطء وبتأن مقصود !لا أدري ماذا يسمي الإنسان المتحضر هذا النوع من السلوك، ولا في أي خانات الفعل يدرجه؟ فإذا بي أعود إلى المشهد الذي كانت تتحدث عنه ليلى، في مذكراتها، وإذا به يستحيل كابوسا حقيقيا يحاصرني بإصرار. فغادرت الفندق، ونزلت إلى الشارع أدفن فيه توتري، وانفعالي...
على الساعة الثامنة، عدت إلى غرفتي بالنزل، ووجدتني مدفوعا إلى مذكراتها من جديد. لقد تركتها عند الظهيرة، واقفة تحدق في المجهول "غبية بلهاء عاجزة" فهل استطاعت أن تتماسك بعد الكارثة؟ ماذا فعلت ؟ كيف تصرفت؟ كيف جمعت أثاثها؟ أين اتجهت؟
إنّ رحيل أي كان عن بيته الذي بناه بالجهد والعذاب، وألف العيش فيه، لأمر يثير في النفس نوعا من كآبة غامضة، حتى إذا كان هذا الرحيل لمدة زمنية محددة. فكيف إذا كان الرحيل أبديا والعود مستحيلا، وقد صار البيت أكواما من الحجارة، ستجرف بعد حين، وسيقام مكانه بناء آخر لغرباء. إن ذلك أسوأ التجارب التي يتعرض لها الإنسان في حياته. فكيف يا ترى كان وقع الحادث على نفسها؟ فإذا هي تقول:
" جمعت بعض متاعي، الذي بقي خارج الأنقاض، ووضعته في صرة، وخطونا أولى خطواتنا في اتجاه المجهول..."
ثم تقول:"أحسّ سرحان بصدمة فظيعة، فقد القدرة على الكلام إثرها. أصيب بالخرس أوّل الأمر، غير انه بعد ثلاثة أيام شفي وعاد إليه صوته من جديد، لكن حالة من الاكتئاب والعبوس لازمته طويلا.
بعد مدة اختفى، لا أدري بالتأكيد أين هو، أنا أعرف أنه ذهب يستجيب لنداء ما. لكن لا أعرف أين، وهكذا بقيت أنا وفواز، في هذا الزقاق العديم المجاري، السيئ التنوير، وحدنا نجتر مرارة ما وقع، ونستعد لما هو أمر، لما سيقع بعد حين: اليوم، غدا، لا أدري متى.
هكذا كانت حياتنا، كلّ يوم نسير في جنازات، ونودع شهداء، أطفالا في الغالب، وليس لنا إلا صدورنا العارية في مواجهة قلاع الصلب والفولاذ، والرصاص الحيّ. وحين عرضت وسائل الإعلام صورة شهيدة رضيعة ،وكيف أن شظية قنبلة مزقت صدرها الصغير وكيف أن جهازها التنفسي قد خرج من ظهرها. وكيف حاول الطبيب مرتين إعادته إلى مكانه فأبى. يومها وبعد أن مزقت رصاصة متعمدة الطفل محمد الدرة بين أحضان أبيه قبل ذلك بأيام انهار آخر جدار للوهم كنت أحتمي به.
أصبح من المستحيل ترميم الانكسارات التي تتكاثف باستمرار، الفجيعة، الموت، الضياع. لا أدري أيها يجيء أولا. غابت حساباتي، حين لم يعد شيء يخضع لحساب، حياتي أنا وفواز والآخرين، على كف عفريت، لا نعرف متى يبسطها، ومتى يقبضها وفي أي لحظة يسحبها فجأة، ويكون السقوط وتكون النهاية المروّعة...
ثم تقول:
كنت وأنا طفلة، أعاني من حالة نفسية غريبة، تجعلني كثيرة المخاوف، أتوقع الأسوأ دائما، ولقد حاولت أستاذتي التي علمتني الرسم، أن تشفيني منها، وكادت تنجح، بعد أن بذلت جهودا مضنية لشهور طويلة. وقطعت فترة من عمري سوية أو أكاد، ولكن هاهي أحداث حياتي، تعيدني إلى مخاوفي الأولى. وتغدو تلك الكوابيس، والمخاوف، تمزقات في الأوردة والأعصاب يصعب الشفاء منها بالتأكيد. ووجدتني أميل إلى شيء من المازوشية، أحقر نفسي وألومها، وأحقد عليها، لأجل تلك الفترة من عمري، التي قضيتها في بلاهة، أجري وراء وهم مستحيل، حين ظننت أنه بالإمكان مهادنة الظلم، ونسيان هموم الوطن، والعيش في سلام تحت الاحتلال. حاولنا أنا وسرحان أن نخدع أنفسنا، جعلنا على الجرح النازف ضمادا بلون البشرة، وتوهمنا أننا شفينا، وأن الجرح اندمل، وحاولنا أن نتحمل كل الأوجاع، متظاهرين بالسعادة والهناء. وفجأة نكتشف، أن الجرح مازال مفتوحا، وغائرا متعفنا، ينزّ صديدا، وقيحا، والشفاء بعيد..."
رنّ الهاتف فتركت مذكراتها وتناولت السماعة فإذا زميلي يعتذر لاسفاره الكثيرة التي حالت دون ان نقضي أوقاتا اطول من تلك التي قضيناها معا، ويتأفف من المتاعب التي تسببها له مهنته. ثم طلب موعدا للقائي كي نتناول العشاء معا ثم نمضي بقية الليل في أي مكان يحلو لنا فنتحدث طويلا ونضحك أكثر في زمن صار فيه الضحك بضاعة نادرة جدا.
عبرت له عن مدى سروري بلقائه هذه الليلة فانا في شديد الحاجة إلى من أتحدث معه. ورجوته ان لا يكلف نفسه متاعب من أجلي، وانني مقدّر ظروفه تماما. وقلت له لا خير في صديق يكون قيدا لصديقه وعبئا عليه. واخيرا اتفقنا أن يمرّ عليّ في البيت ثم نمضي إلى حيث يريد...
وضعت السماعة مكانها ورجعت إلى مذكراتها. فقد شدتني أحداث حياتها، الحافلة بالفجائع والويلات، وتوقفت عند هذا المقطع، الذي يبدو غريبا عن سياق الأحداث:
" قيل إن الأسد قبل أن يكون مفترسا مهابا، من طرف جميع الحيوانات، كان مسالما يرعى الحشائش، ويستظل الأشجار. فكانت الحمر الوحشية، والخيول، والبغال، والفيلة والكركدن تطارده، وتعتدي عليه، في كل مكان، وتنكّل به. وتجرأت عليه الذئاب والثعالب وبنات آوى. فكان يعمد إلى الهروب باستمرار، لينجو بجلده. وذات يوم رأته أرنب هاربا فسخرت منه وقالت له:
لو كانت لي أنياب حادّة، وبراثن قوية مثلك، لدافعت عن نفسي، وأقلعت عن الهرب والصراخ، عار عليك...
فقال لها الأسد:
لا حيلة لي مع الفيل، والكركدن، والحمر الوحشية، مع ضخامة أجسامها وقوتها.
قالت له: تخير بطونها فابقرها، ثم أنت خفيف الحركة، تستطيع القفز على ظهورها تضرب عيونها، ومناخرها، وخراطيمها، فتُهْزم وتهابك... لم يصدق الأسد الحكاية ولم يعمل بنصيحة الأرنب.
وذات يوم، هاجمته مجموعة من حمير الوحش، فهرب منها كالعادة ولكنها لاحقته في كل مكان، بإصرار غريب، حتى اشتد تعبه وأخذ يلهث، يكاد يسقط إعياء، ووجد أن لا سبيل للنجاة منها. فوقف يسترد أنفاسه، حتى اقترب منه أولها، فوثب عليه دفاعا عن نفسه فبقر بطنه وفرّ هاربا كالعادة، ثم التفت خائفا منها، وكم كان عَجَبه شديدا عندما رأى الحمر كلها ترتد هاربة، تاركة الأسد وشأنه. عند ذلك، استجمع قوته، وحمل عليها وأجهز على ذلك الحمار الجريح. ومن شدة حقده عليه، والتنكيل الذي مارسه ضده، أكل من لحمه. ومن ذلك اليوم، صار أسدا ولم تعد الحيوانات والوحوش تعتدي عليه".
لم أفهم ماذا تعني بهذه القصة التي لم أسمع بها قبل اليوم وفي حدود علمي لم يكن الأسد في يوم من الأيام من أكلة الأعشاب... فماذا تقصد؟ وإلى أي شيء ترمز؟ هل أثرت أحداث حياتها في أعصابها ؟ فمالت إلى نوع من الهذيان بعيدا عـن المعقول ؟
بقيت وقتا ليس بالقصير أحاول فهم ما ترمز إليه حتّى جاء صديقي فألقيت مذكراتها جانبا وإنطلقنا ...
كان مقهى جميلا زاده روعة فضاؤه الأخضر الفسيح فقد كان ينفتح على حديقة واسعة بها أشجار وقع تهذيبها لكي تكون كل واحدة منها ما يشبه السقف يحميك حين تكون جالسا تحتها من الشمس وتتيح لأشعة القمر إمكانية التسلل إلى مجلسك ومؤانستك بنورها الفضي الحالم يمنحك إحساسا بأنك في أحضان الطبيعة بإخضرارها المتوهج وأغصانها الحانية بحيث تستطيع أن تختار مكانا قصيا عن الآخرين وتتناول مع من معك أي حديث شئت بشيء من الحميمية في أمان ولذلك كان مكانا أثيرا للعشاق والسياسيين والمبدعين الذين ينشدون الهدوء والسكينة .
سرني المكان جدا وأزال كثيرا من التوتر الذي كنت أحسه وأنا أتابع أحداث تلك المذكرات الحزينة قبل حين ولكنه جعلني فجأة أكابد شجنا آخر . يحدث أحيانا أن تضعنا الأمكنة في مواجهة الذاكرة في لحظة نكون غير مهيئين لها فإذا الأشياء تتآمر علينا تفتكنا من حضور اللحظة وتعيدنا في مخاتلة عجيبة إلى أيام خَلَتْ نلملم فتات أعمارنا خلال رماد الذكريات فقد كانت ليما أول من قادني إلى هذا الفضاء الجميل وهاهي الآن تملأ المكان حاضرة بكل سطوع غيابها الموجع ...
- ما رأيك في هذا المكان ؟
إنتشلني صديقي بسؤاله هذا من دوامة تلك الخواطر فرحت أشكره وأثني على حسن إختياره : قلت له مداعبا :
الذين قالوا أهل مكة أدرى بشعابها ... كانوا يدركون جيدا معنى ما يقولون ...
أخذنا بعد ذلك في أحاديث شتى ننتقل من موضوع إلى موضوع بعفوية مطلقة .
وأخيرا سألته : عن ذلك اللقاء الذي أقامه البنك الدولي في تلك البلاد كيف كانت أجواؤه وما رؤية المتحدثين فيه لمستقبل العلاقات بين الأمم والشعوب ؟ وهل توفرت له هو شخصيا فرصة أحسّ فيها بالسعادة والرضى ؟
قال لي : إذا كنت لا مباليا ولا تحمل رؤية خاصة للأمور فإنك تجد حتما ما يريحك فقد كان الإعداد والتنظيم جيدين إلى درجة كبيرة أما إذا تأملت بجدية وقرأت بدقة أكثر ما يطرح من أفكار فإنك تحسّ ولا شكّ بما يكدّر صفوك ويمنعك من الإحساس بأي قدر من السعادة . حين تكتشف أن رغبة السيطرة على موارد الأرض والتفرد بإستغلالها هي ما يجري التسويق لها بطرق ملتبسة ...
وعلى العموم وكتلخيص للوضع برمته يكفي أن تعرف أن المجتمعين هناك خرجوا شبه مطرودِين ولولا هراوات رجال البوليس وغازاتهم المسيلة للدموع لمزقتهم الجماهير بالأسنان ، لأنها ترى في أطروحات البنك الدولي مصادرة لقوت أولادهم فخرجوا في ثورة عارمة ولسان حالهم يردد قولة أبي ذر الغفاري :" إني لا أعجب برجل لا يجد قوتا لأطفاله كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه "...
عكر علينا صفاء هذه الجلسة مكالمة تلقاها صديقي حتمت علينا اختصار هذه اللحظات الجميلة ، فإفترقنا متواعدين على لقاء قريب ومضى كل منا في سبيله ...
من الغد كنت في الفراش الساعة الثانية تقريبا وبجانبي على المنضدة الصغيرة مذكرات ريما كما تركتها بالأمس مشرعة على الصفحة الخامسة والثمانين أخذتها اليّ أتصفحها وإذا بي ألمح عنوانا صغيرا يقول" هدايا عيد الميلاد "...
قبل أن أشرع في القراءة، تساءلت تلقائيا: ترى من يحمل لها هدايا عيد الميلاد؟... هل ظهر سرحان حبيبها وزوجها في حياتها من جديد؟
كنت في قرارة نفسي، أتمنى ذلك، فكما ذكرت لك سابقا، في أول قصتي معها، كنت أكن لها شيئا من الحب، وهاهو يتحول إلى عطف، وشفقة، وخوف عليها، خاصة وقد أصبحت وحيدة في مهب العاصفة، لا سند لها غير فواز الصغير، الذي مازال يعتبر عبئا عليها لا عونا لها، ولهذه المشاعر كلها، تمنيت لو يظهر سرحان في حياتها من جديد. أملا لها وحماية ، وأخذت أقرأ في لهفة مستعجلا. فإذا هي تقول:
"... وفي غسق غروب لن أنساه، وفي عشية عيد الميلاد، جاءتني مجموعة من أطفال أغلبهم دون المراهقة، يحملون فوّازا الصغير، على أيديهم ملطخا بالدّم، ورصاصة حاقدة قد انفجرت في صدره الطاهر، ويده الصغيرة تحمل حصاة لا تقتل حتى عصفورا، تشدّ عليها بإصرار..."
يا للكارثة. ! هكذا قلت بتلقائية ثم واصلت القراءة فإذا هي تقول :
" قليلا من الصبر والتحمل أرجوك، واصل القراءة معي ودعني أذكر لك الهدية الثانية.
بعدما رجعت من المقبرة حيث واريت فوازا الثرى، جاءتني الهدية الأخرى: سرحان نفذ عملية استشهاديّة في حيفا، فقتل سبعة وتطاير جسده شظايا.
توقفت عن القراءة ملتاعا، في نهاية الأسى والحزن، يعصرني القهر عصرا وصرخت وحدي :
فظيع كل هذا الذي يحدث. فظيع أن تكون صدور الأطفال هدفا لرصاص العسكر. فظيع جدا أن يصل اليأس برجل كسرحان إلى حدّ أن يفجر نفسه، والآخرين تاركا وراءه زوجة شابة لا سند لها.
انتشلني من ذهولي رنين الهاتف وبه العاملة تقول:
صديق يريد الاتصال بك في بيتك.
هو زميلي قد وصل.
هكذا قلت في نفسي، ثم أجبتها:
ليتفضل، أنا في انتظاره، وأشكرك يا سيدتي.
شعرت بشيء من الفرح لمجيئه، فإن الإنسان عندما يكون حزينا مأزوما، تشتدّ حاجته إلى من يبادله الحديث، ويخفف أحزانه... فوضعت المذكرات جانبا، وهيأت البيت لاستقبال زميلي.
عندما فتحت الباب دخل بسرعة، وأغلقه وراءه، ووجدتني أمام رجل لا أعرفه. وبسرعة طلب مني أن أسلم له أشياء ريما بدون أن ينزع اللثام عن وجهه.
فقلت له : من أنت؟ و أي أشياء تطالبني بها ؟ ومن هي ريما التي تتحدث عنها؟
أراني مسدسا بكاتم الصوت وقال: لا نريد مشاكل ولا مزايدات... أرجوك كن رجلا وخلصني...
كنت أعرف أني في ظرف غير عادي وفي لحظة من الزمن قابلة لكل الاحتمالات ويمكن أن يحدث في أحد لحظاتها أفعال قد تكون كارثية النتائج. فلم أجد بدا من تنفيذ أوامره، فسلمت له ما تركت ريما عندي، المذكرات والشريط والمصحف الصغير وأنا في حيرة من أمري، بين القلق والخوف والارتباك.
تسلم المذكرات والشريط والمصحف الصغير وقال:
أشكرك من كل قلبي، وأرجو أن يُقفل هذا الموضوع نهائيا، منذ هذه اللحظة، انس أنك عرفت امرأة بهذا الاسم، إذا كنت لا ترغب في مشاكل. وانس أن أحدا اتصل بك هذا المساء. قال ذلك ثم انصرف وتركني محبطا حائرا اتساءل في خوف وأسى:
من هو هذا الرجل؟ ايكون عبدو وقد كلفته ريما بهذا العمل؟ إذا كان هو فلماذا لم يعرفني بنفسه وقد كنا اصدقاء طوال تلك الرحلة؟ السافل تنكر لي أخيرا. لكن ألا يكون احد الواقفين وراءها وقد علم بوجود هذه الاشياء عندي فأراد أن يأخذها قبل أن تقع في أيدي آخرين؟ هل أعلمته ريما بذلك؟ أم كان على بينة من كل الامور منذ بدايتها؟ ثم عدت اتساءل بعد حين:
هل استطاعت ريما أن تفلت من قبضتهم وتنجو بجلدها وهي التي فكرت في هذه المذكرات؟ لا أحد حسب ما اعتقد يعرف بوجود هذه الاشياء عندي غير ريما وربما عبدو. وقد اصبح الآن واضحا انهما على نفس الموجة وانهما شريكان وان العلاقة بينهما على خلاف ما اظهراه لي، وما فهمته انا بعفويتي. ثم إن الطريقة التي تصرف بها الرجل الملثم معي ترجح انه هو عبدو نفسه.
" أشكرك من كل قلبي وانس انك عرفت يوما امراة بهذا الاسم"
هكذا قال. خلت أن الصوت يشبه صوته عندما يكون جادا بالرغم مما أحدثه اللثام من تأثير. لكن كيف استطاع التعرف على مكان إقامتي؟ من دله على ذلك؟
فكرت في إعلام إدارة النزل بما وقع طالبا منهم التصرف ولكني وجدت أن ذلك ضد مصلحتي تماما فبقيت مدة من الزمن صامتا تمزقني المخاوف والافتراضات والشكوك.
أخيرا وجدتني شبه متأكد من أن الرجل الملثم هو عبدو ولا احد غيره. وان ساءتني طريقة معاملته لي إلا أني التمست له عذرا فالأوضاع شديدة الخطورة، وبدأت أهدأ قليلا وأحاول التغلب على مخاوفي ولا آسف كثيرا لفقدان ذلك الظرف، بل لعلي قد ارتحت من مسؤولية وجوده عندي. ثمّ عاودتني المخاوف من جديد ورحت افترض افتراضات رايتها ممكنة الوقوع تجعلني متهما بمساعدة ريما وعبدو ودعمهما. ولكني أخيرا حسمت أمري وقررت أن أنسى ما وقع وأن أتصرف كأن شيئا لم يكن.
مساء السبت وعلى الساعة العشرين كنت كعادتي منذ أن فارقت ليما وخاصة بعد ان اتصل بي ذلك الرجل الملثم قلقا مضطربا مشتت الأفكار، تنتابني أحيانا مخاوف حقيقية فرأيت أن أفتح التلفاز أتابع الأخبار كي اسعد ولو للحظات فقط برؤية ليما أمامي في صحة جيدة متوهجة كالعادة رائعة شديدة الحضور كما هي في كياني دائما.
ظهر على الشاشة منظر مؤلم كئيب ومأساوي يثير التقزز والغثيان ولكنه للأسف أصبح مألوفا مع ذلك . هو عبارة عن مكان في إحد شوارع تلك العاصمة الحزينة المترامية الأطراف على جانبيه بساتين وأشجار نخيل . ثمّة آليات تحترق يتصاعد منها لهب تسعّره ريح شرقية فيتأجج ويتصاعد منه الدخان كثيفا ناشرا ظلالا شديدة القتامة على غابات النخيل والبساتين والمآذن والكنائس ، ترى جثثا لقتلى تناثرت قريبا من اللهب وتفحمت بعض أجزائها ... غير بعيد وقف الجنود الأحياء وأصابعهم على الزناد على أهبة الإستعداد حائرين تسيطر عليهم حالة من الرعب والإرتباك والفوضى يتصرفون بعصبية كما هي حالهم منذ أن بدأت الأحداث تأخذ منحى جديدا وأصبحت الضربات تنالهم من كل مكان وفي كل الأوقات تقريبا ، لقد أصبحوا في مواجهة مقاومة قالوا عنها : " إنها شرسة وغير متوقعة ولا نمطية " الأمر الذي أفقدهم أعصابهم وأطار صوابهم فأصبحوا يطلقون النار عشوائيا وفي كل إتجاه كلما تعرضوا لتلك الضربات التي كانت تفاجئهم بإستمرار مهما اتخذوا من إحتياطات ومهما رفعوا من درجة الإستعداد .
كنت أتابع هذه الأحداث في قلق وتوتر حتى كان هذا المشهد الفاجع الحزين . و الأكثر كارثية وألما.
رأيت ليمابمنتهى الوضوح تُدْفَعُ بوحشية وعنف من طرف احد الجنود وهو في اشد حالات العصبية، ولكنها تصر على التشبث بمكانها وعدم الابتعاد. ثم تتبادل معه حوارا متوترا فيعمد إلى سبّها ويحاول افتكاك الكاميرا منها وتتشبث هي بها بشجاعة ولكنه ينجح في افتكاكها منها ويدفعها بعنف فتتعثر وتسقط ولكنها تقوم مسرعة فتلتحق به وتتشبث بآلتها من جديد وإذا بجندي آخر يفاجئها من الخلف بضربة على رأسها فتسقط خائرة القوى تتلوى من الألم.
صعقني المشهد وزلزل كياني وانفجرت صارخا وحدي أطلق شتائم لم أعد أذكرها الآن، ثم قمت مسرعا فأغلقت الجهاز واتصلت بوالدها...
كان مثلي شاهد ما وقع. قرّرنا السفر في أول طائرة. ثم علمنا أن الرحلات قد توقفت إلى تلك البلاد. فاشتدت حيرتنا... ثم عزمنا على السفر إلى أقرب مطار إليها ثم نحاول مع الصليب الأحمر والاتحاد الدولي للصحافيين ومنظمة الأمم المتحدة وكل طرف يمكن أن يساعدنا علنا نستطيع إنقاذها قبل فوات الأوان...
وفي المطار تحققت أسوا مخاوفي حين وجدت نفسي موقوفا على ذمّة التحقيق متّهما بمساعدة الإرهاب .