موقع سالم دمدوم للقصّة والرّواية والنّقد - الجزء الثاني - خبر النّقيشة
   
  موقع سالم دمدوم للقصّة والرّواية
  كلمة التّرحيب
  المجموعات القصصيّة
  الروايات
  => المتهمون
  => خبـــر النقيشـــة
  => الجزء الأوّل - خبر النّقيشة
  => الجزء الثاني - خبر النّقيشة
  => الجزء الثالث - خبر النّقيشة
  الخواطر
  الاتصال
  المقالات
  قرّاء وآراء
  المنتدى
  العدّاد
  مواقع ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة 2009@ بإشراف محمّد الهلالي
خبر النّقيشة
- الجزء الثاني –
 
 
-         الورقة الثانية :
...
وهكذا صرنا نتابعأخبار هذا الرجل بمزيد من الحرص والتحري ،حتى وجدنا يوما شابا ،حكى عنه الخبرالتالي :
كنا مجموعة طلبة جمعتنا إجازة الصيف ، أخذنا نقترب مـن " أحمد عنبه " قليلا قليلا، ونحاول إقامة علاقة ودّ معه، لأننا كنا نراه ليس معتوها عاديا، بناءعلى ما كان يأتيه من تصرفات وما يقوم به من أفعال إلى جانب بعض الشائعات التيسمعناها عنه فكان أحيانا يأنس بنا ،ويجلس إلينا، فيبكينا مرة ويضحكنا مرات! وأصبحينادينا بإخـوان الصفاء ، والحواريين ، ورفاق السلاح ، مما جعلنا نتأكد أن الرجلكان مثقفا .
وذات ليلة أخذناه معنا إلى مكان منعزل، على شاطئ مهجور، يقع قربغابة طبيعية كثيفة الأشجار، وأقمنا " حضرة " رقصنا جميعا على دق البنادير، ورقصمعنا طويلا، حتى بدأ يتصبّب عرقا وأخذ يقوم بحركات غريبة عنيفة أخافتنا كثيرا ! ثمبعد ذلك وقع طريحا ، فتحلقنا حوله صامتين! أخذنا الخوف من أن يموت فنصبـح متّهميـنبقتله ...كنا أحيانا نسمع تردّد أنفاسه شهيقا عميقا طويلا، وأحيانا يمضي في سباتحتى لا يكاد يحس له نفس فنبقى حوله صامتين ، حتى إذا انتظمت أنفاسه وعادت إلىهدوئها فرحنا وناديناه . فيقوم متثاقلا ثم يفرك عينيه ويتطلّع إلى البحر ويقول :
انظروا ! هاهو الزورق يتقدم ... انظروا . انظروا ...
نظرنا إلى البحر، فإذاهو كالعادة ساكن هادئ، به مويجات صغيرة تتكسر عليها أشعة القمر، وتُتَوِّجها أحيانافقاقيع رغوة بيضاء ، ولا شيء غير ذلك ،ولكنه واصل قائلا :
ألم تروها ... تأملواجيدا ، ألم تروها ، إنها علياء وتلك التي معها أتعرفونها إنها هدى ، هدى . والهفقلبي عليها ، كيف اِستطاعت الإفلات منهم . هاهي تعانق علياء وتضمها في فرح! هيا معينستقبلها .
قال ذلك ثم اندفع إلى البحر وخاض الماء عدوا . اِلتحقنا به وتشبثنابثيابه ،حتى أرجعناه إلى اليابسة ، فأخذ ينتحب باكيا بكاء حقيقيا ، تنهمر له دموعهبغزارة، مردّدا بين الحين والحين فيما يشبه النواح :
لهف نفسي عليك ، لقد شلّالرفاق ذراعي وخذلوني فمنعوني من احتضانك ، فلا إليك ولا إلى علياء اِستطعت الوصول . ثم أخذ في نشيج أليم مدة من الزمن، حتى أخذته سنة من النوم فهمد، عندما استيقظتمطى شديدا ثم التفت إلينا و قال :
أنتم مازلتم هنا يا أولاد الكلاب، تتجسسونعلي ، اغربوا عن وجهي تفرقوا مثل القطط الضابعة ،و تسافدوا كالبوم في الظلام ،اِدفنوا خزيكم و عاركم في أحضان الغواني و المومسات .
قال ذلك ثم أخذته نوبة منهستيريا فظيعة، فاحمرت عيـناه
وعلا شفتيه، الزبد كالجمل الهائج، ثم هجم علينابعصا غليظه، تعود أن يجعل لها حمائل، يضعها على ظهره كالبندقية. فقررنا منه مرعوبين، أمّا هو فقد يمّم الغابة و غاب بين أدغالهـا وابتلعه الظلام بعد أفول القمر .
توقفنا جميعا لما تركنا ،و بقينا مدة نستمع، فإذا لغط وصراخ و أصوات تنكسركأنها وقع السيوف على السيوف وثمة من سمع حمحمة خيل و ارتجاز فرسان في ساحةوغَى.
تأكد لنا أن صاحبنا ليس مجنونا عاديّا ،و عقدنا العزم على أن نسعى لدىالجهات المختصة كي يعاد فحصــه مـن جديـد .و يقع تدارك أمره و إنقاذه وتكفّلتمجموعة بإعداد نداء إلى كل من يعرف عنه شيئا أو يملك وثائق تخصّه أن يقدمها إلىرئيس اللجنة في أقرب الآجال ... وتمّ نشر هذا النداء في أغلب الصحف ...
صفحات من مذكرات الدكتور مسعود...
حاولت النسيان . حاولت . حاولت.....
تعليق صغير
( ثمة فقرة كاملة تعرضت لبلل ما فأمّحت وأصبحمن العسير قرائتها).

أحسست أن فكري يتصحر . الأشياء لم تعد لها دلالاتهاالعادية ثمة إنزياح رهيب طال كل شيء !
أصدقاء الأمس أصبحت أحس أنهم أغراب . شعارات كنا رفعناها معا وقفنا وراءها بصلابة – اختفت . والذين رفعوها انقلبوا عليها ... صار الثوار خونة . ركبوا كل ريح ، أخيرا دمروا أوطانهم ! الإخوة يتآمرون عليك. يغلون يديــك ورجليك ويقدمونـك للجلاّد... يحوكون حولك مؤامـرة الصمـت يسلكون مسلكالقرود الثلاث في تلك الأسطورة الشهيرة حيث يعمد أحدها إلى إغلاق فمه فلا يتكلم !ويعمد الثاني إلى إغماض عينه فلا يرى! والثالث يصم أذنيه فلا يسمع !وكما في كلأسطورة ثمة دائما شيء مثير للإرباك نصدق وننبهر ونتعجب أم نشك ونرفض؟!
يالها منفضاعة أن ترى هذا يحـدث .. هل حدث ذلـك فـعلا ... إني أحيانا أشك في كون ما يحدثمجرد خـيالات وهلوسات تجري في ذهني أنا وحدي ! .
تجتاحني أحيانا حالة لا مبالاةغريبة! لم يعد لأي شيء طعم لا الشعر ولا الفن ولا الموسيقى ... الأمكنة أصبحت تثيرفي نفسي نوعا من العداء لها ! خرجت عن حيادها الطبيعي ... الناس أراهم ولا أراهم ! أحيانا أحاول أن أخلو بنفسي فلا أجد فرصة لذلك . تحاصرني الآلة من كل مكان . الحاسوب في المنزل والحاسوب في المكتـب و فـي المحفظة ،والهاتف الجوال، والقار،والفضائيات، على اختلاف أهدافها، كلها تستبد بي، ولا تترك لي فرصة الإنفراد بذاتي،كي أرتب نفسي من الداخل أعيد تأثيث ذاتي على نحو صحيح .
قررت أخيرا أن أبتعد عنالأمكنة التي تعودت الإقامة فيها ! قلت: لعل ذلك يتيح العودة إلى التعاطف معالأزمنة والأمكنة كما كنت سابقا ،لكن للأسف لم يتحقق ذلك! لازمتني حالة حياد عاطفيحيال كل شيء . حالة من الإنبتات فضيعة، لم أتعرض لها في حياتي .
في ما مضى كانالكتاب صديقا رائعا ،يتيح لي لذّات فائقة، يهبني شغفا بالحياة ،والناس والأشياءيرحل بي إلى عوالم أثيرية تستفز الخواطر، وتحرك هامد الحس ، ونائم المشاعر .فأغدوحين أظفر بكتاب جيّد ، متوهج الفكر والخيال ،مقبلا على الحياة ومسرّاتها بشغفالأطفال .الآن كل شيء تخشّب !صار بلا معنى ،كل الكتب تشابهت في نظري، وأصبحت مملةمتنًا وهامشًا .
انزاحت القضايا الخطيرة، وانحشر بعض الكتّاب في النصف الأسفل منالإنسان ،فأصبح البضر والشفران ،والفرج، والقضيب، و قذارات الشرج ،والبواسير ،ومابين الأليتين والشفرين وافرازاتها شيئا يستطيبه القراء ويستهوي الناشرين .
إنيأتساءل : هل تغيرت الأشياء أم أنا الذي تغيرت ؟!
قد تتغير بعض الأشياء، ولكنليس بهذا القدر ! فهل أنا هو الذي يحمل جرثومة هذا الداء الذي بدأ يستفحـل في ذاتي ! يجعلني أرى الأشياء على خلاف ما يرى الآخرون .
...منذ أن انقطعت رسائلهاومكالماتها بعد أن أصبحت في عالم غير عالمنا ،لم يعد أي شيء ولا أي متعة من متعالحياة يستثير في نفسي حتى أقل قدر من الإغراء.
حاولت النسيان .. لهثت وراءه بكلالجهد ،ولكن لم أفلح. بعدها لم أعد قادرا حتى على احصاء الخسائر .
قلة هم الذينيعرفون ما معنى احصاء الخسائر بعد هبوب العواصف .
... هو قال : " بعد أن تمرالعاصفة ويتوقف هديرها المرعب سيعود الهدوء إلى الأشياء ونألف في شيء من الهدوءشفافية السّكون . عندها تهدأ مياه البحيرة ويكون في الأمكان البحث عن سوار الأميرةتحت ضوء القمر... "
كاتب هذه الكلمات أتراه يعي جيّدا قانون العواصف ؟! إثر كلعاصفة مهما كان نوعها لا بد من خسائر وتشوهات أتراه أدرك مرة فجيعة إحصاء الخسائر؟! هل أحس يوما وجع الفقد ؟ عذبات البقاء وحيدا عندما يرحل الآخرون من هم عليناأعزاء..
بعد موتها تعطل كل شيء وتغير ، هدوء الصمت ، لم يعد يهب الأمان النفسي ،الذي يجعل الخواطر تسرح في حرية ترتاد فلوات الحلم ، بما فيها من روعة وجمال . ترحلأحيانا في لحظات الغفلة يحدث ذلك أحيـانا ،هـذا صحيـح ،ولكن سريعا ما تتوقف عندالحدث ! يعود الرعب فيفترس كل شيء ! يستحيل الصمت هديرا وصراخا وأصواتا رهيبة، وتتجاذب صور المآسي ، المجاعــات والمظالم، الأموات الدّمار ... فأضطر للهرب منالسكون ، أتعمد الخروج إلى الشارع المزدحم ، أتجول في الأسواق . كنت في سنوات سابقةعندما يعتريني الإجهاد أتعمد ارتياد الأسواق ، ألتذ بسماع باعة الخوخ والتفاحوالمشمش يتغزلون بهذه الغلال الرائعة ، يفتحون للناس نوافذ للحلم، للإشتهاء ، للحب، ولأشياء أخرى جميلة ، ولكن هذه المرة لم أعد أسمع ذلك الغزل البريء !...
أعمدأحيانا إلى ولوج الأسواق الأسبوعية في مواسم الأعياد.
كان يلذ لي أن أشاهدالأطفال بمرحهم ولعبهم وألعابهم أتعمد ذلك عله يحيى في نفسي ولعها القديم، ببراءةالأطفال، في تصرفاتهم مع ألعابهم.غير أني صرت أصدم هنا أيضا ! أكثر اللعب تختصرعالما من الرعب . كلها أسلحة، طائرات، دبابات، رشاشات، جنود في حالة ممارسة للقتل ! والأطفال ببراءتهم، يمثلون أدوار القنص، والقصف، والدك ! أغلب اللعب تسيّر بالأزرار . يقع التحكم فيها عن بعد ، هل أصبحنا نعيش عصر الأزرار هل أصبحت لمسة ناعمة علىزرّ أخرس تحمل عالما كاملا من النقيض إلى النقيض .
تأخذني هذه المشاهد والأفكارإلى نقطة البداية دائما.. إلى لمسة ناعمة على زرّ تحدث كارثة ...
عجبا كيفابتلعكِ العدم في لحظة ؟! في جوف أي قرش أنتِ الآن ؟.. في أعماق أي المحيطات ؟ بينصخور أي عماق؟ أي كلاب بحر اتخذت منك وليمة لها ؟ سيظل دائما ثمة أشرار يهيئونالولائم لكلاب البحر والبرّ، وللآخرين مواكب العزاء والحسرة .
إني أتساءل :
لو لم تسافري، لو لم تكوني متفوقة، لو لم تكوني مسكونة برغبة المعرفة والتميز،تحقيق الأجمل والأفضل. هل كان يحــدث ما حدث؟!
تجتاحني أحيانا حالة ندم فضيع،تعذبني بعقدة أنني ربما كنت السبب، لأني لم أمنعك من السّفر والمشاركة في تلكالدورة ! هل كان ذلك ممكنا ،وأنت من أنت لدي؟ ... هل تتيح لي قناعاتي أن أقف أمامطموحاتك المشروعة ، رغبتك في تحقيق الأفضل ،وأنت قادرة تماما على ذلك ؟
فات أوانهذا القول بالتأكيد. ومع ذلك مازلت أتساءل : من هم الذين اغتالوكِ ؟! القدر ؟الصدفة ؟ الآخرون ؟ هل كنت مقصودة بذلك الفعل . أم أن الصدفة وحدها هي التي جعلتكفي ذلك المكان في نفس تلك اللحظة؟ لحظة حدوث الكارثة ، حيث يعمد مجرم بكل برودالقتلة المحترفين إلى لمسة ناعمة على زر أخرس !
بقية وثيقة أخرى التهمت النيرانأغلبها
لقد كنتِ ينبوعا متدفقا من العطاء والعطف والحنان، استطاع أن يجرف كل ماترسب في حياتي من انكسارات وتفاهة وخيبات.
وجدت فيك منذ أن انجذبنا إلى بعضنابطريقة غريبة أراد القدر أن يسوق بها دليلا آخر على أنه قادر على فعل العجائب. أحداث أشياء كبيرة بطرق غير معقولة !
وجدت فيك حنان الأم، وأعجاب الأخت ،وروعةالحبيبة، وهوس العشيقة ، ثم بتقدم العلاقة بيننا تصيرين شيئا آخر تماما، يحتوينيكما يحتوي البحر كلّ ما فيه ! .
ماذا أصير بعدك أنا...
ورقة من كنشمذكرات الدكتورة فاطمة : عبد السّلام
...كنتُ مخطئة ! لأكثر من سنةكنت أمارس خطأ فضيعا! ليغفر لي الله . لم يكن يهمني المرضى ! السجلات هي التي تهمني ! الأرقام ، تضمين الوصولات ، تدوين درجات الحرارة ، الصور بالأشعة كمية الأدوية ،التغذية ومدى استجابتها للتوصيات ، أما المريض فذاك شأن آخر ، لا أصرخ في وجهالوصلات والوثائق والتقارير ، لكني أصرخ بشراسة أحيانا في وجوه بعض المرضى الذينيبحثون في الغالب عن بسمة أمل ، لمسة حنان ،لحظات حوار تقرب إلى الحميمية !
جاءهذا المريض فانقلب كل شيء في سلوكي من النقيض إلى النقيض . لا أدري كيف ولأي سبب؟! ، هل أنا أعطف عليه بدافع إنساني مهني لا غير؟ لماذا أجد نفسي مدفوعة بقوة أجهلهاإلى غرفته والبقاء إلى جانبه أطول وقـت ممكن؟ .. لماذا أحرص على مرافقة الممرضة وهيتباشر معالجته . لماذا ارتجف عندما يتألم هو لوخز الإبرة ؟! شيء آخر لماذا أحس أنالجناح الذي يقيم به أكثر إشـراقـا ونظافة ... لماذا أحرص على تغيير الأزهاربمزهرية بيته كلما أذبلتها نسمات أواخر الربيع؟!... دعني أكون صادقة مع نفسي . لماذا أحس للمسة يده دفء الأنفاس ونعـومة الحـرير و أشياء أخرى؟
لا أدري ... وعليّ أن أتوقف وأترك بقية مشاعري على سفوح الحلم تنتظر انهطال المطر ...
صفحة من مذكرات ناظر المستشفى الذي عالج فيه الدكتور مسعود :
...لقد اعتبرت حالة الدكتور مسعود مستعصية، بل أكاد أقول أنها ميؤوسمنها .ولكني مع ذلك لم أيأس .
...كلفت الدكتورة فاطمة عبد السّلام بالاهتمام بهوالإشراف على ملفه الصحي :
الدكتورة فاطمة عبد السلام ذات كفاءة عالية لكنهاتعرضت تعرضت لشرخ عاطفي جعلها تنطوي على نفسها متلبسة بحالة من الكآبة واليأس جعلتبعض زميلاتها وزملائها يعاملونها معاملة خاصة . وكنت أقصد من وراء تكليفها ذاك أنأجعلها تتعامل مع وضع تكتشف معه أن ما حلّ بها لا يساوي شيئا أمام مصائب الآخرين! ولقد رأى بعض الزملاء تصرفي هذا غير وجيه ،وغير مناسب فوضع الطبيبة فاطمة هو نفسهفي حاجة إلى رعاية خاصة. غير أني أردت أن أجرّب فهي قبل أن تصاب بذلك الشرخ كانت منخيرة ما عندي من إطارات في المؤسسة .
بعد أسبوعين لاحظت تحسنا في وضع المريض ،فقد فارقته تلك العدائية التي واجه بها كل من اقترب منه أول الأمر، وتعلق بطبيبتهتعلقا غريبا ،وصار يرفض كل انسان مهما كان إلاّ بصحبة فاطمة وكنت سعيدا .
بعدشهر من المراقبة لاحظت ما أذهلني :
أن الدكتورة خرجت من حالة الكآبة التيلازمتها طوال خمسة عشر شهرا !دبّ في وجهها شيء من الألق افتقدناه طويلا . أصبحتتطالعك على محياها بسمة غير مصطنعة تلحظ بوضوح أنها أصبحت تهتم بمظهرها: تضع زينةخفيفة وتستعمل عطرا هادئا حالما، تقبل على مريضها بروح تلمح فيها العطف والحنانوالرغبة الصادقة في مساعدته على الشفاء وكان هو يستجيب لها استجابة جيدة. بدأتتخرجه شيئا فشيئا من حالة الوحشية التي كانت تجعل منه احيانا وحشا كاسرا ولقدلاحظنا أنها أحيانا تتبادل معه النوادر والحكايات وصار هو يتقبل الأدوية والفحوصبكل سرور ويستجيب لها بروح متآزرة متعاونة، مما جعلني أدوّن في السجلات بأن المريضاجتاز مرحلة الخطر بواستطها وكاعتراف بما بذلته الدكتورة فاطمة من جهد، وما وصلتإليه من نتائج، فقد قدمت توصية إلى مجلس الإدارة بترقيتها درجتين، وقررت بيني وبيننفسي اختيارها لبعثة دراسية على مستوى رفيع.
جزء من رسالة قديمة...لست أدري لماذا كانت رسائلي إليك كمشاعري نحوك موسومة بتلك الحالةالعجيبة التي تتلبسنا كلما حاولنا ارتياد مناطق واقعة بين المباح والمحذور، تلكالحالة التي نتعرض لها أثناء ممارستنا الأولى لأشياء بين الحب والقدسية ؟هل هي "عقدة أديب " مازلت تلازمني بطريقة أخرى.
هل أنت فعلا عشبة خلود محرمة ، تزرعفي نفسي ذلك الارتعاش الملتبس بين الرغبة والخوف . بين الاشتهاء والخجل؟
لاأدري !ما أحسه أن رعشة الملامسة الأولى، رعشـة التهيـب
و الاشتهاء، رعشة تجاوزالبكارة تعتريني دائماكلما أخذت القلم لأكتب إليك، فهل أن استحضارك في ذهني، يزرعنيفي غابات مؤثثة بالشك وجسامة الروعة.
هل أني أراك دوما.هرما وأسطورة . حاضرةبغيابها أشّد مما هي بحضورها.
ها أني بعدك أتأمل صورة وضعتها أنت في قاعةالاستقبال.لوحة الفنان " بيتر بروقل " لعب الأطفال. جسد فيها ذلك الرسام الملحميكمّا هائلا من ألعاب الأطفال وهرجهم .كانت تمنحنا أنا وأنت سعادة عظيمة . تمنحنيشخصيا تأشيرة الاغتراب عن الواقع لحظات .تمنحني فسحة حلم جميل أحضن اثناءها أملاًأخضر.
اليوم.. مار أيتها مرة إلا كان طيفك حاضرا.. كنت أنت من يحضنها ويضعها فيمكانها هناك. طيفك يسعّر عذابات فقدك. فتغتالني حالات وجوم واكتئاب رهيبة .
فكرتفي إزالتها وإبعادها عني حتى لا أراها . وفعلت ذلك . فإذا مكانها الخالي أشد لوعةواستحضارا لك !... بعدك أصبحت على قناعة بأن الإنسان هو الذي يهب الأماكن والأشياءوهجها وجمالها ، أنتِ من كانت تضفى عليها دلالاتها ورموزها ، بدونك أصبحت خلاء لاينطوي صمته على أي معنى ، ما عدا العدم
لقد كانت الأمكنة والفضاءات الصغيرةشديدة الجمال ، بالغة الألفة ، مهموسة الدفء ! شيء ما كان يتوهج فيها ، يتضوع معالأرغفة الساخنة ، وأنفاس قهوة الصباح ، تضعها أمامك كف حانية حبيبة تمنحك إشعاعبسمة حب صادقة ، مضمخة بشذى الحنان ، تخلّصك من صقيـع الوحشة ، والشعور بالغربةوالعذاب ، تهبك فسحة حلم وفرح في زمن قاتم الكآبة قاحل الروح .
هكذا كنتتغسليلني تماما ، من الهواجس ، والتعب ، والرداءة ، وتمنحينني ذلك الإحساس المدهش ،بحب الحياة ، وروعتها ، والرغبة في مشاركة الآخرين ، في صياغة أفراحها ، بكلالإندفاع والغبطة .
جزء من وثيقة أخرى :
... أن عينيهاعصفورتان اغتسلتا مرات عديدة في بحيرات الفرح والجنون . وأنهما مطر ينهطل حبّاوتسامحا ومغفرة ، وأن النوارس والسنوسؤات تستحم في بحيرتهما ، وأنهما ترسمان ضبابالبحر فوق البحر ، في أصائل الصيف وصباحاته ، وأنهما حقلان واسعان تستوطن فيهماالحمائم ، والفراشات ، والهداهد ، وطيور ابريل والسنونؤات العائدة من هجرة بعيدة . وأنهما غديران صافيان تتطهر فيهما أسراب القطا ، والحجل والمها والآيائل والغزلان .
غموض الصحاري واتساعها، طهرها وعفتها حيت لم تزل ترانيم نزول الدياناتالسماوية تشيع ذلك الدفء اللامع الهدوء المؤنس الذي يجعل من أحسه يوما لا يشفي منهأبدا ! يضلّ ثملا بشذاه محترقا بلضاه حتى آخر العمر .
عيونها ، أعماق ملتبسةمدهشة ، حقول شاسعة ، حيث يرقد الليل والزيتون ، والحب والصلوات ، والمآذن ، يزهراللوز والخوخ والياسمين والحناء والورد والجدرة .
في عينيها تتألق الربى والسهول، وتتقافز في شبه سباق لإحتضان الألق ، والنور ، والزرقة العجيبة ، التي تتغلّل بهاالسماء في ابريل وماي ، بذخ السنابل ، وخصب الحقول ، غناء الرعاة ، وثغاء القطيع ،وميس القطا ، وهزج الحجل ، وأنفاس المراعي .
ضحكتها بسمة الرضيع وقرقرة الملائكة، التألق الأول للفرحة ، الإحساس البكر بالحب أو الإشتهاء ، واحتضان الحلم ، زبدالموج يمسح صهد الأسى عن صدور المراكب المتعبة ، تخصب الجدب وتشجر القحل في بساتيننفس جائعة للحبّ والألفة .
تطلعوا إلى مبسمها الرائع حيث يستحيل الألق الصدفيّإلى عقد جوهر عجيب تنظمه لثة عذبها وهج السواك فكانت الروعة وكانت العذوبة والعذاب، الخطيئة والطهارة ، المنفى والملكوث ، فتعبق رائحة الخزامي ، واسكير الحب ، وبحورالشعر ، وصلوات العشاق ومواجيد المتصوفين ! تنفتح أبواب الملكوث وتندكّ أسوارالدهشة فتنبت في الفلوات القاحلة أعشاب الأنبهار والروعة والخلود حيث نسير نحوهامنجذبين إليها ببراءة . يستيقظ الطفل فينا فنخربش بالفحم أو الطباشير أو على رمالالشاطئ نرسم بعض حمامات صغيرة ، وأزهارا ، أو فراشات ، وأشياء أخرى ، حبيباتنا ،عرائس أمانينا ، أميرات أحلامنا . ثم نهيل الرمل على نهاراتنا المهزومة ، نغتسلونتطهر وننتشئ فرحا بحلم جميل أكتشفنا فجأة أنه لم يمت فينا .

زار الصّفحة اليوم (زائر) 1 visiteurs
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement