خبر النّقيشة
- الجزء الأوّل –
هذه الأحداث التي أرويها أيها السادة لا تخصّني، لا دخل لي فيهاعلى الإطلاق ،ولم أكن شاهدا عليها أيضا، فأنا حتى هذه اللّحظة لا أعرف أين وقعت،ولا من هم أبطالها الحقيقيون. تعثرت بها صدفة وهذا كل ما هناك.
- قلت لكم " أرويها "
ليس ذلك دقيقا تماما: ربما كنت مقدّمها أو معلّقا على بعض أجزائها كأنأبدي ملاحظة ما، أو أشير إلى ما أراه فيها من جوانب تتعلق بالشكل ليس أكثر.
عداذلك، ليس لي أي ضلع حتى في صياغتها، أو ترتيب أحداثها، فإذا ظهر لكم أنها متناسقةالأجزاء متناغمة الوقائـع، أو بها نوع من الحبكة التي تتوفر لبعض رجال السرد، فليسلي في ذلك أي فضل أو ظهر لكم العكس، فلا تلوموني، إنما الفـضل أو اللوم في ذلكيتوجّهان إلى صاحبها الأصلي فقد كان على ما يبدو رجلا متعدد المواهب له قدرة علىتبليغ أفكاره للآخرين بطريقة مشرقة وجذابة.
هذا طبعا رأيي الشخصي لا غير ولاألزم به أحدا.
قلت منذ حين تعثرت بها صدفة . وليس ذلك دقيقا أيضا فالحقيقةأنّها هي التي تعثرت بي !
حدث لها خطأ ما فضلت طريقها، حتى وضعتها الأقدار بينيدي، وكانت لي مفاجأة غريبة لأول وهلة !
ذلك أني ذات يـوم، في فصل الصيف، فتحتصندوق السيارة الخلفي، لأضع فيه بعض الأشياء ،فإذا حقيبة سوداء موضوعة في الزاويةالأمامية على اليمـين .كانت من ذلك النوع الذي يستعمله الأطباء ،وأصحاب الشركات،ورجال الأعمال . لها قفل رقمي أصفر اللون . أنكرتها أول الأمر و استغربت وجودهاهناك. سألت عنها زوجتي فنفت أي علم لها بها .
داخلني إحساس بالخوف للحظات ،ثمتشجعت وقررت فتحها .ولما شرعت في ذلك وجدت أنها قد تعرضت للفتح عنوة مما جعل قفلهالم يعد يشتغل بفاعلية كما كان ، وصار فتحه وإغلاقه يسيرين.
بالحقيبة وجدت ملفاأصفر ، به مجموعة أوراق . لا علاقة لها بي ولا بشغلي ، فاتصلت بجميع أصدقائيومعارفي، فأنكروا جميعا صلتهم بها ، فعمدت إلى نشر إعلانات في الصحف والإذاعة ولميتقدم أحد ...
تردّدت طويلا قبل أن أفتح الملفّ وأبدأ في تصفّح أوراقه وبعدحوالَى ثلاثة أسابيع، وصلتني بالبريد العادي هذه الرسالة:
" أعتذر لكم يا سيدي،فقد أغراني شكل الحقيبة ، فتصورتها مليئة بالدنانير، خاصة وهي حقيبة طبيب وأنامفلس، لكن للأسف خاب ظني . وها أنا أردها إليكم حين حانت الفرصة أكرّر اِعتذاري . ثم يمضي " اللصّ الشريف ".
اِستغربت الأمر وبقيت أتساءل :
أي طبيب يعني ؟بعد حيرة دامت زمنًا ، تذكرت أن البيت الذي تسوغته منذ ثلاثة أشهر، كان يسكن بهطبيب شاب، ذهب مرتين في قافلة طبية خارج الوطن دفع حياته في المرة الأخيرة ثمنالتعاطفه مع آلام الآخرين. حقائبه وحدها عادت... فقلت في نفسي :
واضح أن الحقيبةلذلك الطبيب الشاب ،وأن لصًّا تمكّن من سرقتها ،ولمّا لم يجد بها ضالته، قرّرإِرجاعها لصاحبـها ،غير أنه أخطأ مرة أخرى، فهو عندما رأى سيارتي، ظنها سيارة ذلكالطبيب صاحب الحقيبة ، فغافلني وأرجعها . كاد يتأكد لي ذلك لمّا تذكرت أني يومالأحد تركت سيارتي للتنظيف وتبديل الزيوت وربما غفل العامل، أو أنا عن إقفالصندوقها الخلفي .
هكذا زالت بعض مخاوفي، غير أن تذكّر ذلك الطبيب الشاب والنهايةالأليمة لحياته، سبّبا لي اِنقباضا وحزنا لازماني طويلا .
وبعد وقت وجدت أن رغبةغير عادية ،في تصفح هذه الأوراق، تستبد بي وتدفعني إلى معرفة محتواها. ولست أدريلماذا تكتسب أشياء الأموات دائما، هذه الخاصية العجيبة التي تجعلنا نقترب منها بشيءمن الخشوع، نحس أن لها نوعا من القدسية وتحدونا رغبة في معرفة ما تخفي هذه الأشياءأترانا نتلمس صورة من نهاياتنا القادمة، أم نحن نريد ملاحظة انتصارات الآخرينوانكساراتهم لمجرّد أن نعتبر ؟ هل في نهاية كل انسـان " درس وعبرة " ؟ لا أعرفبالضبط . ما أدريه هو أني أقبلت على تصفح هذه الأوراق ، بجدية وشغف، معتقدا أنهاتخص ذلك الطبيب الشاب .
لكن للأسف كنت مخطئا فيما تصورت ! فقد اتضح أن الأوراقلا علاقة لها بحياة ذلك الرجل .
أبادر الآن، فأقدم لكم أوراق الملف، ورقة ورقة،ملتزما الأمانة الكاملة ، مبقيا على ما فيها من غموض، وتداخل في بعض الأحيان .
- الورقة الأولى :
هذا الملف، هو ملف شخصي يخصّ رجلايعرفه الناس باسـم " أحمد عنبه " قضى سنوات من حياته معتوها ،فاقدا للوعي، يعيش كمايعيش المجانين أمثاله ، يتنقّل في الشوارع، يفعل ما يحلو له يأكل من صناديق القمامة، يخطف الخبز أو الفاكهة إذا خطر له. علّق على رقبته تمائم مختلفة الأشكال والأنواع، هواتف أطفال خرزا ، صفائح حديد ، حروزا كبيرة مخروزة في جلود . يعاكسه الأطفالأحيانا ، فيثور ويتوعدهم ،فيهربون، فيقهقه ضاحكا في سعادة ،وأحيانا تأخذه حالة منهستيريا فظيعة، تجعل حتى الكبار يمتلئون منه رعبا، إذ ينقلب وحشا كاسرا ...
كانمن عادته أن يرتاد – صيفا وشتاء – ساحلا مهجورا به خرائب أثرية وينادي بأعلى صوته ،سعد ، شهرزاد ، هدى علياء، وثمة من قال إنّه رأى امرأة تخرج له من البحر، وتقيم معهزمنا ثم تغيب في الموج من جديد ، وتتزيّد بعض الروايات فتقول :
إنّ أحد المصورينالهوّاة غافلة مرّة واِلتقط له صورة مع هذه المرأة (لم أجـد هذه الصورة بالملـف،وربما كان خـبرها ضـربا مـن الخيال).