قل لي يا سيدي النحات
كيف بالإزميل أنطقت الحجر؟
من تراك تكون يا سيدي ؟ هل أنت فيدياس ؟
قيل إن إزميل فيدياس كان غزّالا شديد التوله بالرخام ! وإن قلبه محب للجمال حتى العبادة ، وإن أزميله فلقة من نيازك الخلود
بكم من الحب يا سيدي النحاة ، بكم من جنون العشق وحنانه ، بانفعالاته وسكراته ، صرت إله ، خلاّقا واهبا رعشة حياة وكثيرا من الخلود للمرمر الصلب الثخين ؟!
من هي يا ترى المرأة التي خلبت لبك ؟ سعَرت نارا في كبدك ، شفت جنانك ، صهرت روحك في محرق حبها ، فكنت الوهج ، وكنت النور ، وكنت لهيب الوجد ، جنونا منفلتا لا يخاف ولا يرهب ، فلا الصعاب صعاب ولا المستحيل مستحيل . وإذا صلابة الرخام ، لين ودفء وروعة ، جمال خالد رغم طول السنين !
بأي جنون زرعت الدفء في برودة الرخام ، كيف شكلت المرمر الجامد الصلد رقة ونعومة، عنفوان شباب ، وشموخ أنوثة تطمح إليه أجمل الجميلات ؟!
هذا الجيد الأتلع ، هل ثمة امراءة لا تطمح أن يكون لها جيد شبيه به ؟ وهذا النهد الشامخ في جبروته وتكوره المتوهج وشاعريته وجنونه ، كم من صبية حلمت بأن يكون لها في صدرها مثل هذا الجمال ؟ كم صبية وقفت أمامه وتلمست صدرها وفي سرها صلوات ودعاء وغيرة من هذا الذي كورت على صدر الرخام؟
ما أشد عجبي ، ما أكثر ولهي لروعة إزميلك ، ما أكثر لهفي لمعرفة كيف استطعت أن تجعل صلد الرخام حريرا ينساب على جسد حسناء آسرة شكلتها من حجر لا يحس ولا يلين ولا يستجيب لغير الخلاَقين !
بأي جنون زرعت الدفء والحياة والأهواء والأشواق في هذا المخلوق العجيب ؟
يا لدقة مقاييسك ، يا لصبرك ، يا لحبك لهذه المرأة التي أوحت لك بهذه التحفة الرائعة ، الخالدة خلود الزمان
ها نحن وبعد آلاف السنين نقف أمام ما صنعت بخشوع وحيرة وانجذاب .مرتبكين كالأطفال ترتعش أرواحنا دهشة حيال هذا السر الخالد الذي خصك الله به فأهداك بعض صفاته نحاول بعد أن نتخلص من الدهشة أن نجد نشازا ما ، في اليدين ، في الأصابع، في الساقين ، في الردفين ، في تموجات الرداء ، في ضفيرة الشعر ، في استقامة الأنف ، في تكور النهدين فلا نظفر بطائل أبدا
تبدو حكاية ذلك النحّاة الذي صنع تمثالا ثم فتن به واتخذه معبودا بعيدة عن الأسطورة وليست هي هلوسة مبدع هام بما صنع، ولكنها قريبة جدا من أن تكون حقيقة واقعة كحقيقة هذا التمثال الباذخ الحضور، هذا الصرح الممرد من الرخام والانفعالات والحلم والحب
بأي تقنية يا سيدي صنعت هذه العجيبة ؟ كم صبرت ،كم تأنيت ، كم كنت رفيقا وعنيفا ، رفيقا بالرخام وعنيفا به في نفس الوقت ، كم لمسة لمست ، وكم ضربة ضربت ، وكم توقفت عن العمل بعد كل ضربة ، وكل لمسة لترى ماذا صنعت وإلى أين تمضي ، وفي أي اتجاه وبأي حدة تكون ضربات الأزميل؟. تعي جيدا أن أي ضربة خاطئة ـ مهما كانت صغيرة ـ ستفسد كل شيء ، ولن يغفرها قانون العمل ولا حساسية الرخام!
كيف كورت هذين النهدين الشامخين ؟ بأي لمسات للأزميل برعمت تينك الحلمتين الصغيرتين ؟ كيف أبرزت حتى مسرى الحليب فيهما ؟! كيف أسلست ضرباتك لتنشئ ذلك الخد الأسيل ، وكم من الشموخ زرعت في ذلك الأنف الأقنى ، كيف وكيف وكيف ؟ كم ليلة بت ساهرا والناس نيام ؟ وكم حلمت وثرثرت وحاورت الرخام ؟ ألم ترتعش أشياء في فؤادك وأنت تمسح براحتيك مباهج جسد الأنثى الرائعة التي شكلت ، ألم تغتلم وأنت تمسد بيد حانية عاشقة على الكتفين ، والردفين والأفخاذ والصدر ؟ ألم تحرق بخورا في معبد نفسك ، وأنت تقوم بهذه الطقوس العجائبية ؟
كيف عشقت المرمر حتى لان لك وسال حنانا وسلّم لك روحه كما" أسلمت جيدها أنثى لشاعرها "
ثمة أسطورة قديمة تتحدث عن فتاة من ( كورنثا ) أرادت أن تخلد حبيبها الذي سيسافر بعيدا عنها ، وكانت ترغب في الاحتفاظ بصورة منه تكون لها عونا على أيام البعاد . كانت معه في لقاء مسروق من الزمن شأن لقاءات المحبين في ذلك الزمان ، كان الوقت ليلا وكان ثمة سراج وراء الحبيب وفي لحظة من اللحظات أشاحت بوجهها عن حبيبها فلاحظت أن صورته ارتسمت على الجدار طيفا مضللا ، ولما ذهب الحبيب استحضرت ذلك الطيف في خيالها وراحت ترسم خطا يحد ذلك الطيف حتى رسمت ما يعتبر تخطيطا دقيقا لوجه حبيبها . وتقول الأسطورة كذلك إن والد تلك الفتاة - وكان خزافا – وجد ما رسمته ابنته على الجدار وإنه وضع عليه صلصالا وضغطه وجعل منه شكلا بارزا من خلال تعريضه للنار مع بقية منتجاته الخزفية وأصبح مجسما لوجه ذلك الحبيب .
لقد خلبت هذه القصة خيال كثير من الشعراء والفنانين ، بما تثيره من أجواء رومانسية صوفية . قيلت حولها قصائد ونسجت حكايات ورويت أساطير، اختلط فيها الواقع بالخيال . غيرأن الثابت الذي تقوله هذه الأسطورة هو أن الحب الصادق والعشق الخالص، هما وحدهما محركا الفن ، وصانعا روائعه على امتداد التاريخ، وبلا حب ليس ثمة مجال لإبداع نماذج رائعة ، أنغاما أو صورا أو نصوصا شعرية أو سردية . فبالحب وحده تشاد عمائر الإبداع الحقيقي . فيا سيدي صانع هذا التمثال ، أسألك مرة أخرى- وأرجو أن تتجاوز عن تطفلي – من حبيبتك الرائعة هذه ؟ من تكون ، وعلى أي الجبال أو السواحل التقيتها ؟ من أي زمن هي؟ وفي أي بلد تقيم ؟
بنقردان في 18 نوفمبر 2009
سالم دمدوم